فجعلوا محل النقصان غير محل الزيادة، ودخلوا في معنى من يقول: الإيمان يزيد ولا ينقص وهم يشعرون. واحتج هؤلاء لقولهم بقول الله عز وجل:{يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}. وإنما أراد بذلك أن رفع الصوت فوق صوته يوقع معصية، فيخرج إيمان الرافع ويحبط عمله. وإنما قال:{أعمالكم} لأن الخطاب للجماعة، فإذا أحبط لكل واحد منهم بعض عمله فإنما هي أعمال حبطت، والله أعلم.
واحتجوا بقول الله عز وجل:{يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}. قالوا: أبان الله تعالى بهذه أن العبادة قد تحبط مع بقاء الإيمان بجناية تكون من صاحبها. وقد روي عن سفيان بن عيينه أنه سئل عن الإيمان: هل يزيد؟ فقال: نعم. فقال: أينقص؟ قال: نعم، وقد أخاف أن ينقص حتى يذهب كله. وفي رواية أخرى أنه قال: ينقص حتى لا يبقى معك مثل هذا، وقلل أصابعه. وهذا ليس فيه الاحتراز الذي حكيته عن أصل القول الأول. وقد علم أن سفيان لم يكن ممن يكفر أهل القبلة بالذنوب، فإنما يخرج جوابه عن هذا: أن المعاصي تحبط الطاعات. بل يحترز عن هذه العبادة فلا يطلق أصلا، لأن عصاة المؤمنين يأملون من الله العفو إما ابتداء أو تفضلا أو بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن الله تعالى إذا عفا عنهم وضع السيئات وأثابهم على الحسنات، فلو كانت حبطت لم يكن للشفاعة ولا للعفو معنى! ألا ترى أن الكفر إذا أحبط الإيمان لم يكن فيما حبط منه شفاعة وكذلك لو حبط فروعه بالمعاصي لم يكن فيما حبط منها بشفاعة ثم بسنة، والله أعلم.
أن تكون العبادة عن رأي سفيان أن حسنات المؤمن تصير مرتهنة بتبعات سيئاته، فإن عفا الله تبارك وتعالى عنه وزادت حسناته على سيئاته، وضع من ثواب حسناته بقدر ما يوازن الحسنات منها قصاصا بها، واستحق بما وراءها النار، وأصل الإيمان وفروعه في ذلك سوى، فيكون نقصان الإيمان من قوله نقصان ثوابه، ولعل ذلك يرجع إلى أنه ينقص من ميزانه، فلا يثقل به. ويكون وجه هذا أن حسنات المؤمن إذا صارت وقاية له من النار، فأولاها بذلك أصل الإيمان لأنه أقوى، فهو بالوقاية أولى.