قيل: من لا يلزم هذا لأن الطاعة والمعصية لا تكونا إلا لأمر. ولأن الطاعة موافقة للأمر وامتثاله، فمن لا يثبت الأمر لا يمكن أن تؤخذ منه طاعة. والعصيان مفارقة الأمر، فمن أثبت الأمر أمكن وجود مفارقته منه، والمؤمن يثبت له فيصح وجود العصيان منه وبالله التوفيق.
فإن قيل: فإن لم تكن معاصي المؤمن من فروع الكفر، فما هي؟
قبل: ليس بواجب أن تكون المعصية إلا فرع للكفر، لأن العصيان كما ذكرنا مفارقة الأمر، وليس الداعي إلى مفارقة الأمر الكفر وحده، ولو كان كذلك لاستحال وجود معصية من المؤمن. ولكن الهوى وحب الشهوات داع إلى المعصية، كما أن الكفر داع إليها. وإنما توجد المعصية من المؤمن إجابة منه للهوى، ومثلا منه إلى قضاء شهوته، وليست تقع منه قصدا إلى خلاف الباري جل ثناؤه. ولو وقعت لهذا لكانت كفرا. فأما الطاعة فلا داعي إليها إلا تعظيم الأمر وابتغاء مرضاته ولهذا لم يصح وجودهما من الكافر، فلهذا كانت طاعة المؤمن كلها فروعا لإيمانه، ولم تكن معاصيه كفرا ولا من فروع الكفر، وبالله التوفيق.
وإذا كان الأمر على ما وصفت كان الجواب عن قول القائل: إن لم تكن معصية المؤمن من فروع الكفر: فما هي؟ أن يقال: هي من فروع هواه ووقوع شهواته. والكفر أيضا من فروع هواه وشهواته، والكفر والمعاصي من ينبوع واحد. فأما أن تكون معاصي المؤمن فروعا لكفر غير موجود منه، فذلك محال! وإذا استحال هذا لم يجز أن يقال: أنها تحبط حسناته وطاعاته. لأن الإيمان كما لا يبطل إلا بالكفر، فكذلك فروعه لا تبطل إلا بالكفر، إذ الطاعات إيمان ولا ضد للإيمان إلا الكفر والله أعلم.
ومما يدل على فساد هذا القول أيضا أنه يؤدي إلى المحال، لأن قائله يقول: أن السيئات تحبط الحسنات ما وجدتها، فيتخلص المسيء بما يخطر من حسناته من عذاب النار، حتى إذا لم يبق أصل الإيمان فعمل سيئة هلك وحقت عليه النار، وهذا محال. لأن الحسنة إنما كانت تقي صاحبها النار، فأولى بذلك حسنة الإيمان نفسه، لأنه أصل، ولا أصل أقوى. فينبغي أن يكون أحصن وأوفى. فأما أن يكون ما دونه يكمل لدفع النار عن صاحبه، والأصل لا يكمل لذلك فهذا لا يبين له وجه. وبالله التوفيق.