فإن قال صاحب هذا القول: إني لا أقول ما يؤدي إلى المحال الذي ذكرت، ولكني أقول: أن كل معصية فهي تهبط من الطاعة المتقدمة بقدرها، فإذا أحاطت المعاصي بالطاعات التي دون الإيمان أحبطتها، والعذاب مع ذلك واجب على صاحبها إلا أن يعفو الله تعالى عنه، فلا أقول أن بطلان الطاعة عذاب المعصية دون النار، بل هو كما أجمع المسلمون عليه من أن المسلم إذا ارتد حبط ما مضى من إيمانه، ثم لا يكون ما يبطل من ثواب إيمانه جزاء كفره حتى لا يدخل النار، بل النار جزاؤه لإحباطه إيمانه. فكذلك معصية المؤمن إذا أحبطت طاعاته إلى دون الإيمان، كان جزاء إحباطه إياها النار. وإذا كان هذا هكذا: وكانت الطاعة إيمانا، فحبطت بالمعصية، فقد تحقق نقصان الإيمان بالمعصية.
قيل له: إن الذي ظننته لا يصح لأن ثواب الطاعة إذا بطل لأجل المعصية فقد سلب فائدة الطاعة. فوجب أن يسقط بذلك ضرر المعصية. ولو جاز أن يحرم ثواب الطاعة- ومع ذلك يعذب بالنار على المعصية- جاز أن يعذب مرتين. فأما المرتد فليس له عند الله ثواب. فمن وافاها كافرا فلا وعد له منه.
فإن قال قائل: إنما وعد ثواب الطاعة من يوافي بها يوم القيامة، ولم يواف بها من أحبطت معاصيه طاعته.
قيل: لو لم يواف بها لم تنفعه الشفاعة كما لا تنفع المرتد، ولما نفعته صح أن قد وافى بها. وأيضا فإن من الفروق بينهما أن المرتد ناقص الإسلام بالكفر، والنقض حرام عليه. فإذا وجد منه حبط إسلامه بنقضه إياه، واستحق العذاب على النقض. وأما المحسن بإقام الصلوات وإيتاء الزكوات، إذا زنا أو سرق أو شرب، فليس ينقض شيئا من ذلك ما قدم من طاعاته، لأن الزنا ليس ضد الصلاة، فيصير ناقضا له بها. ألا ترى أن هذا هكذا يكون في أحكام الدنيا. فإن المرتد يكلف إعادة عقد الإيمان، والزاني بعد صلاته لا يكلف إعادة الصلاة، والسارق بعد صيامه وزكاته لا يكلف إعادة صومه وزكاة ماله. وإذا كان هذا هكذا، صح أن الزنا إن أحبط الصلاة أو شيئا منها، فليس يمكن أن يكون ذلك إلا على وجه معاقبة الزاني على الزنا بحرمان ثواب الصلاة عنه. فإن كان كذلك واقعا فلا ينبغي أن يعذب مع ذلك بالنار، فيكون كمن عذب مرتين، وبالله التوفيق.