الثلمة بعد الثلمة، ثم يواقعه نفسًا باضاعة النعل، فمن كان هذا دينه، فأي دين دينه؟ أما أن يكون منافق القلب أو يكون إيمانه في نهاية الضعف. وما قال حذيفة رحمه الله من هذا، فكما قال: فمن أهمه من أمر دينه ما ذكرنا، وكره أن يكون المنزلة التي وصفنا، فليدع المعاصي كما يدع الكفر نفسه، حتى إذا أسلم له أصل دينه بأجزائه فلقي الله عز وجل وهو كامل، وفضل الجميع له حاصل وبالله التوفيق.
ومن الشح على الدين أن المؤمن إذا كان من قوم لا يستطيع أن يوفي الدين حقوقه بين ظهرانيهم، وهاجر إلى حيث يعلم أنه خير له وافق قال الله عز وجل:} ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت، فقد وقع أجره على الله {. فيدخل في هذا من هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ليلقاه ويصحبه ويجاهد معه. ومن هاجر بعده إلى حيث يستطيع إظهار دينه ونصب إعلام شريعته، فيه قال الله تعالى} فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول {. فدخل في ذلك الرجوع إليه حقًا في سؤاله عما أشكل والرجوع بعد وفاته إلى سنته وما بلغ الناس عن ربه جل جلاله فكذلك يدخل في الهجرة، وإليه الوجهان اللذان ذكرتهما والله أعلم.
فإن أقام بدار الجهالة ذليلاً مستضعفًا وهو يقدر على الانتقال إلى حيث يخالفها فقد ترك -وفي قول كثير من العلماء- فرضًا واجبًا، لأن الله تعالى قال:} إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض. قالوا ألم تكن أرض الله واسعة، فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكن الله عفوً غفورًا {.
ويوعد تارك الهجرة من البلد الذي يكون مستضعفًا فيه، إذا كان قادرًا عليها مثل هذا الوعيد، فثبت أنها فريضة لازمة أيضًا. فإن الهجرة من مكة كانت واجبة قبل الفتح لما كان المسلم يخشاه بها من الفتنة على الفتنة، وأنه كان يعجز من إظهار دينه ولا يتمكن كما ينبغي من عبادة ربه، فأي مسلم حرص له أو مثله في بلد فهو في معنى المسلمين كانوا يومئذ.