ويبين ما قلنا أن القاريء وإن لم يقف على فواصل الآيات، فإن الفواصل لا تصير عدمًا. فلو كان الوقوف على الفواصل يجعل القرآن شبيهًا بالشعر، لكان وجود الفواصل للقرآن قد جعله شبيهًا بالشعر. وإذا لم يكن وجودها له مشبهًا إياه بالشعر، فكذلك الوقوف على أواخر الآيات إن كان يشبه الوقوف على قوافي القصيد. فالوقوف عندتنا هي الأغراض يشبه الوقوف إيتاء الرسالات والمحاورات، لأن العادة أن من أدى إلى آخر كلام في معاني وأغراض شيء، فإنه يلقيه إليه فصلاً فصلاً، وكلما استوفى غرضًا وقف، ثم أخذ فيما سواه. والقرآن كما لا يشبه الشعر لا يشبه رسالات الناس ومحاوراتهم، فليتق من يشبه بها ما أوجب المعترض إيفاءه ممن يشبهه بالشعر والله أعلم.
وأيضا فإن الله عز وجل قال بما وصف كتابه لنبيه صلوات الله عليه:} ولقد أنزلنا إليك آيات بينات {فأخبر جل ثناؤه أن آيات القرآن بينات، ولم يفصل بين جهة وجهة، فهي بينات من كل وجه. فمنها أنها واضحات في الدلالة على ما أريد بها. ومنها أنها بينات أي بينات عن كلام البشر، ومنها أنها بينات بمعنى أن كل آية فهي بائنة عن صاحبها لا تختلط بها ولا تتحد معها، فمن وصل عند القراءة آية آية، فقد سلبها وصفها الذي وصفها الله تعالى به. ومن وقف عند أخرها فقد جلاها حليتها ووقر عليها صفتها التي أثبتها الله تعالى لها. فبان أن الوقف أولى من الوصل والله أعلم. فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده ما جزأوا القرآن إلا إلى الآيات والسور، وليس يحفظ عنه عليه السلام، ولا عن أحد من أصحابه بجزاء انتهاء الأغراض للوقف. ولا روى عنه ذلك ولا عنه في خبر صحيح ولا معلوم. وقد علمنا أنهم لم يكونوا بحسن من الوقف بدًا، فلما لم ينقل عنه في غيره تواصل الآيات شيء، علمنا إن الوقف إنما كان يقع منهم عند الوصل والله أعلم.
وأيضًا فإن قوله عز وجل:} لإيلاف قريش {متصل بقوله تعالى} فجعلهم كعصف مأكول {، وأجمع المسلمون على أن الوقف عند قوله عز وجل "كعصف مأكول" أليس يفتتح، وكيف يقال أنه نسخ؟ وهذه السورة تقرأ في الركعة الثانية،