للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَدْخُلِ الْجَنَّةَ إِنَّمَا أَرَادَ بَعْضَ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ وَأَفْضَلُ وَأَنْبَلُ وَأَكْثَرُ نَعِيمًا وَأَوْسَعُ, إِذْ مُحَالٌ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يُرِيدُ لَا يَدْخُلُ شَيْئًا مِنَ الْجِنَانِ, وَيُخْبِرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَتَكُونُ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ دَافِعَةً الْأُخْرَى وَأَحَدُ الْخَبْرَيْنِ دَافِعًا الْآخَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مِمَّا لَا يَدْخُلُهُ التَّنَاسُخُ, وَلَكِنَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ. ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الرُّبَيِّعَ أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْبِئْنِي عَنْ حَارِثَةَ أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ, فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَاحْتَسَبْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ فِي الْبُكَاءِ. فَقَالَ: "يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي جَنَّةٍ, وَإِنَّهُ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى" ١.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أَمْلَيْتُ أَكْثَرَ طُرُقِ هَذَا الْخَبَرِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ, وَقَدْ أَمْلَيْتُ فِي كِتَابِ ذِكْرِ نَعِيْمِ الْجَنَّةِ ذِكْرَ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ وَبُعْدَ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ. مِنْهَا أَنَّ إِخْبَارَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقٍ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمَا, وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِهِ: تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ, قَالَ: "بَلَى رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ" ٢, وَأَمْلَيْتُ أَخْبَارَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِنْ دَرَجِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ٣. فَمَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ بعض الذنوب الذي يَرْتَكِبُهُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ مُرْتَكِبَهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ, مَعْنَاهَا لَا يَدْخُلُ الْعَالِي مِنَ الْجِنَانِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ لَمْ يَرْتَكِبُوا تِلْكَ الذُّنُوبَ وَالْحَوْبَاتِ وَالْخَطَايَا.

ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يُرِيدُ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ الَّتِي يَدْخُلُهَا فِيهِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ هَذِهِ الْحَوْبَةَ؛ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِمَّا لِلْمُحَاسَبَةِ عَلَى الذَّنْبِ أَوْ لِإِدْخَالِهِ النَّارَ لِيُعَذَّبَ بِقَدْرِ ذَلِكَ الذَّنْبِ, إِنْ


١ ابن خزيمة في التوحيد "ص٣٦٩-٣٧٠"، والبخاري "٦/ ٢٥-٢٦" في الجهاد، باب من أتاه سهم غرب فقتله، وفي المغازي، باب فضل من شهد بدرا، وفي الرقاق، باب صفة الجنة والنار.
٢ ابن خزيمة في التوحيد "ص٣٧٠"، والبخاري "٦/ ٣٢٠" في بدء الخلق، باب صفة الجنة، ومسلم "٤/ ٢١٧٧/ ح٢٨٣١" في صفة الجنة، باب ترائي أهل الجنة الغرف.
٣ رواه البخاري "٦/ ١١" في الجهاد، باب درجات المجاهدين في سبيل الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>