لَا يُرِيدُ وَيُرِيدُ مَا لَا يَكُونُ, وَأَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَسْتَعِينُونَ عَلَى طَاعَتِهِ وَلَا تَرْكِ مَعْصِيَتِهِ وَلَا يَعُوذُونَ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَلَا يَسْتَهْدُونَهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ, فَقَوْلُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَقَوْلُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ لَا مَعْنَى لَهُ عِنْدَهُمْ وَرُبَّمَا اسْتَنْكَرُوهُ كَمَا جَحَدُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْأَنْعَامِ: ٣٩] هَذَا مَعَ إِنْكَارِهِمْ عِلْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَإِرَادَتَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
"فَصْلٌ" وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ إِضَافَةُ الْفِعْلِ وَالِانْفِعَالِ كِلَاهُمَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ قَوْلُ الْجَبْرِيَّةِ الْغُلَاةِ الْجُفَاةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى أَفْعَالِهِ مَقْسُورٌ عَلَيْهَا كَالسَّعَفَةِ يُحَرِّكُهَا الرِّيحُ الْعَاصِفُ وَكَالْهَاوِي مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ. وَأَنَّ تَكْلِيفَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِبَادَهُ -مِنْ أَمْرِهِمْ بِالطَّاعَاتِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمَعَاصِي- كَتَكْلِيفِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ بِالطَّيَرَانِ وَتَكْلِيفِ الْمُقْعَدِ بِالْمَشْيِ وَتَكْلِيفِ الْأَعْمَى بِنَقْطِ الْكِتَابِ, وَأَنَّ تَعْذِيبَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ هُوَ تَعْذِيبٌ لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِ لَا عَلَى أَفْعَالِهِمْ, وَأَنَّ ذَلِكَ كَتَعْذِيبِ الطَّوِيلِ لِمَ لَمْ يَكُنْ قَصِيرًا وَالْقَصِيرِ لِمَ لَمْ يَكُنْ طَوِيلًا وَالْأَسْوَدِ لِمَ لَمْ يَكُنْ أَبْيَضَ وَالْأَبْيَضِ لِمَ لَمْ يَكُنْ أَسْوَدَ, فَسَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ, وَأَخْرَجُوا عَنْ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا, وَنَفَوْا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى حِكْمَتَهُ الْبَالِغَةَ, وَجَحَدُوا حُجَّتَهُ الدَّامِغَةَ, وَأَثْبَتُوا عَلَيْهِ تَعَالَى الْحُجَّةَ لِعِبَادِهِ, وَنَسَبُوهُ تَعَالَى إِلَى الظُّلْمِ وَطَعَنُوا فِي عَدْلِهِ وَشَرْعِهِ. فَلَا قِيَامَ عِنْدِهِمْ لِسَوْقِ الْجِهَادِ, وَلَا مَعْنَى لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَلَا لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ, بَلْ وَلَا لِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ إِلَّا التَّكْلِيفُ فِي غَيْرِ وسع وتحميل ما لا يُطَاقُ, وَالظُّلْمُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ مُحَرَّمًا فَأَقَامُوا عُذْرَ إِبْلِيسَ اللَّعِينِ وَعُذْرَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ وَسَائِرَ الْأُمَمِ الْعُصَاةِ الْمَمْقُوتِينَ الْمَقْبُوحِينَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمُ الْمَخْسُوفِ بِهِمُ الْمُعَدَّةِ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا, وَأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَلَعْنَهُ وَعِقَابَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى فِعْلِهِ لَا عَلَى أَفْعَالِهِمْ, بَلْ قَالُوا: إِنَّهُ عَاقَبَهُمْ وَمَقَتَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا خَالَفُوا شَرْعَهُ فَقَدْ أَطَاعُوا إِرَادَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ. هَذَا مَعْنَى إِثْبَاتِ الْقَدَرِ عِنْدَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ الْإِبْلِيْسِيَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقِيَمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute