للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"بَلْ خَلَقَ" اللَّهُ تَعَالَى "الْخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ" عَزَّ وَجَلَّ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ "وَ" مَعَ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ لَا يُشْرِكُونَ بِعِبَادَتِهِ أَحَدًا كَائِنًا مَنْ كَانَ بَلْ "بِالْإِلَهِيَّةِ يُفْرِدُوهُ" دُونَ مَا سِوَاهُ فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ تَعَالَى أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ أَشْرَكَ بِهِ لَحْظَةً مِنَ اللَّحَظَاتِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ حَبِطَ جَمِيعُ عَمَلِهِ وَصَارَ هَبَاءً مَنْثُورًا حَيْثُ أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ مَخْلُوقٌ لِعِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيْ: إِلَّا لِآمُرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُونِ وَأَدْعُوَهُمْ لِعِبَادَتِي١. يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التَّوْبَةِ: ٣١] وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ إِلَّا لِيُقِرُّوا بِعِبَادَتِي طَوْعًا أَوْ كَرْهًا٢. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ, وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُجَاهِدٌ: إِلَّا لِيَعْرِفُونِ, وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: أَيْ: إِلَّا لِلْعِبَادَةِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنَ الْعِبَادَةِ مَا يَنْفَعُ وَمِنْهَا مَا لَا يَنْفَعُ. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لُقْمَانَ: ٢٥] فَهَذَا مِنْهُمْ عِبَادَةٌ وَلَا يَنْفَعُهُمْ مَعَ الشِّرْكِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ ا. هـ. مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ٣. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَسُفْيَانُ: هَذَا خَاصٌّ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ٤ يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" ثُمَّ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الْأَعْرَافِ: ١٧] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَا خَلَقْتُ السُّعَدَاءَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِلَّا لِعِبَادَتِي وَالْأَشْقِيَاءَ مِنْهُمْ إِلَّا لِمَعْصِيَتِي. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: هُمْ عَلَى مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ إِلَّا لِيَخْضَعُوا لِي وَيَتَذَلَّلُوا. وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي اللُّغَةِ التَّذَلُّلُ وَالِانْقِيَادُ فَكُلُّ مَخْلُوقٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ خَاضِعٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَمُتَذَلِّلٌ لِمَشِيئَتِهِ وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ خُرُوجًا عَمَّا


١ تفسير البغوي "٥/ ٢٣٠" وقد ذكره دون سنده. وليس هو عند ابن كثير "في المطبوع".
٢ ابن جرير "٢٧/ ١٢" وابن أبي حاتم "الدر المنثور ٧/ ٦٢٤" وفيه انقطاع بين علي وابن عباس رضي الله عنهما.
٣ تفسير ابن كثير.
٤ انظر فتح القدير للشوكاني "٥/ ٩٢".

<<  <  ج: ص:  >  >>