للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [الْبَقَرَةِ: ١٩٥] .

وَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَفْسِيرًا لَا يَسْتَطِيعُهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ أَحَدٌ غَيْرَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَقَالَ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" ١ أَخْبَرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ مَرْتَبَةَ الْإِحْسَانِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ, وَأَنَّ لِلْمُحْسِنِينَ فِي الْإِحْسَانِ مَقَامَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ:

الْمَقَامُ الْأَوَّلُ -وَهُوَ أَعْلَاهُمَا- أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ, وَهَذَا مَقَامُ الْمُشَاهِدَةِ, وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ عَلَى مُقْتَضَى مُشَاهَدَتِهِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِقَلْبِهِ, وَهُوَ أَنْ يَتَنَوَّرَ الْقَلْبُ بِالْإِيمَانِ وَتَنْفُذَ الْبَصِيرَةُ فِي الْعِرْفَانِ حَتَّى يَصِيرَ الْغَيْبُ كَالْعِيَانِ, فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ مِنْهُ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ الْخَشْيَةَ وَالْخَوْفَ وَالْهَيْبَةَ وَالتَّعْظِيمَ, وَفِي حَدِيثِ حَارِثَةَ الْمُرْسَلِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: "يَا حَارِثَةُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ " قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا. قَالَ: "انْظُرْ مَا تَقُولُ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةٌ" قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأَسْهَرْتُ لَيْلِيَ وَأَظْمَأْتُ نَهَارِيَ وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا, وَكَأَنِّي أَنْظُرُ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا, وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ كَيْفَ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا. قَالَ: "أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ, عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَصِيرَتَهُ" ٢.

الْمَقَامُ الثَّانِي: مَقَامُ الْإِخْلَاصِ, وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ عَلَى اسْتِحْضَارِ مُشَاهَدَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَإِطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ وَقُرْبِهِ مِنْهُ, فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْعَبْدُ هَذَا فِي عَمَلِهِ وَعَمِلَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُخْلِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اسْتِحْضَارَهُ ذَلِكَ فِي عَمَلِهِ يَمْنَعُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ


١ تقدم تخريجه سابقا.
٢ أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان "٣٨/ ح١١٥" بسند معضل ضعيف وقد رواه البزار من حديث أنس مرفوعا "كشف الأستار ١/ ٢٦/ ح٣٢" وفي سنده يوسف بن عطية ولا يحتج به. ورواه الطبراني من حديث الحارث نفسه وسنده ضعيف جدا "المعجم الكبير ٣/ ٢٦٦/ ح٣٦٧" والحديث لا يثبت إلا معضلا. فهو ضعيف مع نكارة متنه. إذ فيه تزكية النفس وقوله: "مؤمنا حقا" وهو أمر معلوم النهي عنه إذ الاستثناء في الإيمان هو خلق الصحابة رضي الله عنهم. مع خوفهم من النفاق كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. كما سيأتي من حديث حنظلة بعد قليل.

<<  <  ج: ص:  >  >>