وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ الْعَظِيمِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَخْلُوقَاتِ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تُسْتَقْصَى وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ وَغِنًى يُغْنِي عَنْ خَرْطِ الْمَنَاطِقَةِ وَمُقَدِّمَاتِهِمْ وَنَتَائِجِهِمْ وَتُنَاقِضِهِمْ فِيهَا, وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْلَى وَأَكْبَرُ وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِي مَعْرِفَةِ وَجُودِهِ إِلَى شَوَاهِدَ وَاسْتِدْلَالَاتٍ, فَذَاتُ الْمَخْلُوقِ نَفْسِهِ شَاهِدَةٌ بِوُجُودِ خَالِقِهِ حَيْثُ أَوْجَدَهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ شَيْئًا, فَلِمَ يَذْهَبُ يَسْتَدِلُّ بِغَيْرِهِ وَفِي نَفْسِهِ الْآيَةُ الْكُبْرَى وَالْبُرْهَانُ الْأَعْظَمُ وَشَأْنُ اللَّهِ تَعَالَى أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَجْحَدْ وُجُودَهُ تَعَالَى مَنْ جَحَدَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمُكَابَرَةِ, وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي كُفْرِهِمْ بِآيَاتِهِ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النَّمْلِ: ١٤] فَكَيْفَ بِوُجُودِ الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ أَعْدَاءُ اللَّهِ لِرُسُلِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَابَرَةِ لَمَّا جَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إِبْرَاهِيمَ: ٩-١٠] وَهَذَا يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَفِي وُجُودِهِ تَعَالَى شَكٌّ فَإِنَّ الْفِطَرَ شَاهِدَةٌ بِوُجُودِهِ وَمَجْبُولَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ فَإِنَّ الِاعْتِرَافَ بِهِ ضَرُورِيٌّ فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لِغَيْرِهَا شَكٌّ وَاضْطِرَابٌ وَأَكْثَرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَابَرَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ فَيَجِبُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِلْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ وَلِهَذَا قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ تُرْشِدُهُمْ إِلَى طَرِيقِ مَعْرِفَتِهِ فَقَالُوا: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الَّذِي خَلَقَهُمَا وَابْتَدَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ فَإِنَّ شَوَاهِدَ الْحُدُوثِ الخلق وَالتَّسْخِيرِ ظَاهِرَةٌ عَلَيْهِمَا فَلَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ خَالِقٍ وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَهُهُ وَمَلِيكُهُ, وَالْمَعْنَى الثَّانِي فِي قَوْلِهِمْ: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} أَيْ: أَفِي إِلَهِيَّتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِوُجُودِ الْعِبَادَةِ لَهُ شَكٌّ وَهُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَإِنَّ غَالِبَ الْأُمَمِ كَانَتْ مُقِرَّةً بِالْخَالِقِ وَلَكِنْ تَعْبُدُ مَعَهُ غَيْرَهُ مِنَ الْوَسَائِطِ الَّتِي يَظُنُّونَهَا تَنْفَعُهُمْ أَوْ تُقَرِّبُهُمْ وَالْجَوَابُ لِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ لَا, أَيْ: لَا شَكَّ فِيهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute