للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِتَعْظِيمِ الرُّسُلِ, بِأَنْ يُطَاعُوا فَلَا يُعْصَوْا, وَيُحَبُّوا, وَيُتَّبَعُوا, وَأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَهَذَا تَعْظِيمٌ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ إِلَّا بِهِ إِذْ هُوَ عَيْنُ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى, فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا عُظِّمُوا لِأَجْلِ عَظَمَةِ الْمُرْسِلِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأُحِبُّوا لِأَجْلِهِ وَاتُّبِعُوا عَلَى شَرْعِهِ, فَعَادَ ذَلِكَ إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَلَوْ أَنَّ أَحَدًا عَظَّمَ رَسُولًا مِنَ الرُّسُلِ بِمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ وَرَفَعَهُ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَغَلَا فِيهِ حَتَّى اعْتَقَدَ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْإِلَهِيَّةِ لَانْعَكَسَ الْأَمْرُ, وَصَارَ عَيْنَ التَّنَقُّصِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ, كَفِعْلِ اليهود والنصارى الذين ذَكَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْهُمْ مِنْ غُلُوِّهِمْ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَعِيسَى وَعُزَيْرٍ, فَكَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَتَنَقَّصُوا الرَّبَّ -عَزَّ وَجَلَّ- بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ وَغَيْرِ ذلك, وكذبوا الرسول فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مَرْيَمَ: ٣٠] فَصَارَ ذَلِكَ التَّعْظِيمُ فِي اعْتِقَادِهِمْ هُوَ عَيْنُ التَّنَقُّصِ وَالشَّتْمِ, سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ, وَسَلَامٌ عَلَى المرسلين. "أو حجر, أَوْ قَبْرِ مَيْتٍ, أَوْ بِبَعْضِ الشَّجَرِ" أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُيُونِ وَنَحْوِهَا وَلَوْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ عِنْدَهَا, فَإِنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى عِبَادَتِهَا ذَاتِهَا كَمَا فَعَلَ إِبْلِيسُ -لَعَنَهُ اللَّهُ- بِقَوْمِ نُوحٍ حَيْثُ أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِتَصْوِيرِ صَالِحِيهِمْ ثُمَّ بِالْعُكُوفِ عَلَى قُبُورِهِمْ وَصُوَرِهِمْ وَعِبَادَةِ اللَّهِ عِنْدَهَا, إِلَى أَنْ أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِعِبَادَتِهَا ذَاتِهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَعَبَدُوهَا "مُتَّخِذًا لِذَلِكَ الْمَكَانِ" مِنَ الْقُبُورِ وَالْأَشْجَارِ وَالْعُيُونِ وَالْبِقَاعِ وَغَيْرِهَا "عِيدًا" أَيْ: يَنْتَابُهَا وَيَعْتَادُ الِاخْتِلَافَ إِلَيْهَا "كَفِعْلِ عَابِدِي الْأَوْثَانِ" فِي تَعْظِيمِهِمْ أَوْثَانَهُمْ وَاعْتِيَادِهِمْ إِلَيْهَا؛ وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُكُوفَ عَلَى الْأَشْجَارِ وَتَعْلِيقَ الْأَسْلِحَةِ بِهَا عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ "تَأَلُّهًا" كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ, وَلِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عَلَيْهَا وَيَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: "ذَاتُ أَنْوَاطٍ" فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ, إِنَّهَا السَّنَنُ, قُلْتُمْ -وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ, قَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ, لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ" ١. وَلَقَدْ عَمَّتِ الْبَلْوَى


١ الترمذي "٤/ ٤٧٥/ ح٢١٨٠" في الفتن، باب ما جاء: لتركبن سنن من كان قبلكم وقال: حسن صحيح.
ورواه أحمد "٥/ ٢١٨"، ابن حبان "الإحسان ٨/ ٢٤٨" والحاكم "٤/ ٤٥٥" وقال صحيح ووافقه الذهبي.

<<  <  ج: ص:  >  >>