للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِذَوَاتِهِمْ, وَهَذَا جَائِزٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ أَنْ تَسْأَلَ مِنْ عَبْدٍ صَالِحٍ حَاضِرٍ عِنْدَكَ أَنْ يَدْعُوَ لَكَ وَتُؤَمِّنَ أَنْتَ عَلَى دُعَائِهِ, أَوْ تَسْأَلَ مِنْ مُسَافِرٍ الدُّعَاءَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ جَائِزًا أَعْنِي: التَّوَسُّلَ بِالذَّوَاتِ لَمْ يَحْتَجِ الْأَعْمَى أَنْ يَأْتِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَطْلُبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ, بَلْ كَانَ يَتَوَسَّلُ بِهِ فِي مَحَلِّهِ أَيْنَمَا كَانَ إِذْ لَا فَائِدَةَ زَائِدَةً فِي مَجِيئِهِ إِلَيْهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى, وَكَذَلِكَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ لَمْ يَكُونُوا لِيَعْدِلُوا عَنْ ذَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَاتِ الْعَبَّاسِ لَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ بِالذَّوَاتِ لَا بِالدُّعَاءِ, وَكَذَا مُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ لَمْ يَكُونُوا لِيَعْدِلُوا عَنْ ذَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ وَلَمْ يَطْلُبُوا مِنْهُ الدُّعَاءَ وَلَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ إِذَا وَجَدَ أُوَيْسًا أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الِاسْتِغْفَارَ١. بَلْ كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ بِحَقِّ أُوَيْسٍ الْقَرْنِيِّ وَلَمْ يُعْرَفْ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ التَّوَسُّلَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَلَا بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا بِأَحَدٍ مِنْ أَفَاضِلِهِمُ الْأَوْلِيَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ, وَلَوْ كَانُوا بِالذَّوَاتِ يَتَوَسَّلُونَ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَمَاتِهِمْ, وَهَذَا فِي التَّوَسُّلِ بِأَهْلِ الْقُبُورِ عَامُّ عِنْدَ الْقَبْرِ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا عِبَادَةُ اللَّهِ عِنْدَ الْقُبُورِ كَالصَّلَاةِ عِنْدَهَا وَالْعُكُوفِ عَلَيْهَا فَهُوَ أَشَدُّ وَأَغْلَظُ؛ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ مُفْضِيَةٌ إِلَى عِبَادَةِ الْمَقْبُورِ نَفْسِهِ, كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ اسْتِدْرَاجِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ. وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِغَالِبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ؛ لِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْقُبُورِ أَوْ إِلَيْهَا, وَغَلَّظَ فِي ذَلِكَ وَدَعَا عَلَى فَاعِلِهِ بِاللَّعْنَةِ وَشِدَّةِ الْغَضَبِ, كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الْآتِي قَرِيبًا, إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَإِنْ دَعَا الْمَقْبُورَ نَفْسَهُ فَقَدْ ... أَشْرَكَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَجَحَدْ

لَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ ... صَرْفًا ولا عدلا فيعو عَنْهُ

إِذْ كُلُّ ذَنْبٍ مُوشِكُ الْغُفْرَانِ ... إِلَّا اتِّخَاذُ النِّدِّ لِلرَّحْمَنِ

"وَإِنْ دَعَا" الزَّائِرُ "الْمَقْبُورَ نَفْسَهُ" مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسَأَلَ مِنْهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, مِنْ جَلْبِ خَيْرٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ شِفَاءِ مَرِيضٍ أَوْ رَدِّ غَائِبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ "فَقَدْ أَشْرَكَ" فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ "بِاللَّهِ الْعَظِيمِ" الْمُتَعَالِي


١ مسلم "٤/ ١٩٦٨/ ح٢٥٤٢" في فضائل الصحابة، باب من فضائل أويس القرني رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>