للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلْعَبَثِ ثُمَّ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ عَنْ شِرْكِ مَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَهُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, فَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ثُمَّ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى خَلْقِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةٍ أَيْ: مَهِينَةٍ ضَعِيفَةٍ, فَلَمَّا اسْتَقَلَّ وَدَرَجَ إِذَا هُوَ يُخَاصِمُ رَبَّهُ تَعَالَى وَيُكَذِّبُهُ وَيُحَارِبُ رُسُلَهُ, وَهُوَ إِنَّمَا خُلِقَ لِيَكُونَ عَبْدًا لَا ضِدًّا, وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: ٧٦-٧٨] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] أَيْ: أَفَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ عَبَثًا بِلَا قَصْدٍ وَلَا إِرَادَةٍ مِنَّا وَلَا حِكْمَةٍ لَنَا, وَقِيلَ لِلْعَبَثِ أَيْ: لِتَلْعَبُوا وَتَعْبَثُوا كَمَا خُلِقَتِ الْبَهَائِمُ لَا ثَوَابَ لَهَا وَلَا عِقَابَ {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} أَيْ: لَا تَعُودُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ, لَا لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ لِلْعِبَادَةِ وَإِقَامَةِ أَوَامِرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ نَبْعَثُكُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ فَنُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ, وَهَذَا يَقُولُهُ تَعَالَى لِأَهْلِ النَّارِ تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا وَتَبْكِيتًا بَعْدَمَا رَأَوُا الْحَقَائِقَ عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَزِّهًا نَفْسَهُ عَمَّا حَسِبُوهُ: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أَيْ: تَقَدَّسَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا عَبَثًا فَإِنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: ٧٢] يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَا خَلَقَ الْخَلْقَ عَبَثًا وَإِنَّمَا خَلَقَهُمْ لِيَعْبُدُوهُ وَيُوَحِّدُوهُ ثُمَّ يَجْمَعُهُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ فَيُثِيبَ الْمُطِيعَ وَيُعَذِّبَ الْكَافِرَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَظُنُّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ بَعْثًا وَلَا مَعَادًا وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُونَ هَذِهِ الدَّارَ فَقَطْ {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} أَيْ: وَيْلٌ لَهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ وَنَشُورِهِمْ مِنَ النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَهُمْ, ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ لَا يُسَاوِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: ٢٨] أَيْ: لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ, وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ دَارٍ أُخْرَى يُثَابُ فِيهَا هَذَا الْمُتَّقِي وَيُعَاقَبُ فِيهَا هَذَا الْفَاجِرُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الْإِرْشَادُ يَدُلُّ الْعُقُولَ السَّلِيمَةَ وَالْفِطَرَ الْمُسْتَقِيمَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعَادٍ وَجَزَاءٍ, فَإِنَّا نَرَى الظَّالِمَ الْبَاغِيَ يَزْدَادُ مَالُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>