للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحُمُرِ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةِ الْجَامِعَةِ الْفَاذَّةِ" {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ١ [الزَّلْزَلَةِ: ٧-٨] وَغَيْرُ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهَا جُمْلَةٌ وَافِيَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ, فَكَمَا لَمْ يُوجِدِ الْعِبَادُ أَنْفُسَهُمْ لَمْ يُوجِدُوا أَفْعَالَهُمْ, فَقُدْرَتُهُمْ وَإِرَادَتُهُمْ وَمَشِيئَتُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ تَبَعٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَفْعَالِهِ, إِذْ هُوَ تَعَالَى خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ, وَلَيْسَ مَشِيئَتُهُمْ وَإِرَادَتُهُمْ وَقُدْرَتُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ هِيَ عَيْنُ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفِعْلِهِ, كَمَا لَيْسُوا هُمْ إِيَّاهُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بَلْ أَفْعَالُهُمُ الْمَخْلُوقَةُ لِلَّهِ قَائِمَةٌ بِهِمْ لَائِقَةٌ بِهِمْ مُضَافَةٌ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً, وَهِيَ مِنْ آثَارِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَائِمَةِ بِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ الْمُضَافَةِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً, فَاللَّهُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً وَالْعَبْدُ مُنْفَعِلٌ حَقِيقَةً, وَاللَّهُ تَعَالَى هَادٍ حَقِيقَةً, وَالْعَبْدُ مُهْتَدٍ حَقِيقَةً, وَلِهَذَا أَضَافَ تَعَالَى كُلًّا مِنَ الْفِعْلَيْنِ إِلَى مَنْ قَامَ بِهِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الْإِسْرَاءِ: ٩٧] فَإِضَافَةُ الْهِدَايَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً, وَإِضَافَةُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً, وَكَمَا أَنَّ الْهَادِيَ تَعَالَى لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الْمُهْتَدِي, فَكَذَلِكَ لَيْسَتِ الْهِدَايَةُ هِيَ عَيْنُ الِاهْتِدَاءِ, وَكَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَشَاءُ حَقِيقَةً وَذَلِكَ الْعَبْدُ يَكُونُ ضَالًّا حَقِيقَةً, وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِقُ الْمُؤْمِنِ وَإِيمَانِهِ وَالْكَافِرِ وَكُفْرِهِ كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التَّغَابُنِ: ٢] أَيْ: هُوَ الْخَالِقُ لَكُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَأَرَادَ مِنْكُمْ ذَلِكَ كَوْنًا لَا شَرْعًا, فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ, وَهُوَ الْبَصِيرُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَ, وَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِ عِبَادِهِ وَسَيَجْزِيهِمْ بِهَا أَتَمَّ الْجَزَاءِ, وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فَأَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلْقَ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً, وَأَضَافَ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ الَّذِي هُوَ عَمَلُهُمُ الْقَائِمُ بِهِمْ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً, وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ كَذَلِكَ, وَهُمْ فَعَلُوهُ بِاخْتِيَارِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمُ الَّتِي مَنَحَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا, وَخَلَقَهَا فِيهِمْ وَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ بِحَسَبِهَا.


١ البخاري "١٣/ ٣٢٩-٣٣٠" في الاعتصام، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، وفي الأشربة والمناقب والتفسير، ومسلم "١٢/ ٦٨٠-٦٨٢/ ح٩٨٧" في الزكاة، باب إثم مانع الزكاة.

<<  <  ج: ص:  >  >>