وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ أَيْ لَا تَبْدَؤا فِيهَا بِقِتَالٍ، لَا أَنَّ مُحَارَبَةَ مَنْ حَارَبَهُمْ لَا يَجُوزُ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١] الْآيَةُ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ: " أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ، فَيَكُونُوا مُقَاتِلِينَ إِذَا بُدِئُوا بِالْقِتَالِ، لَا مُبْتَدِئِينَ قِتَالًا فِي الْحَرَمِ.
وَمِنْ ذَلِكَ انْتِزَاعُهُ السَّهْمَ مِنْ كِنَانَتِهِ، لَمَّا شَكَوْا إِلَيْهِ الْعَطَشَ، وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي الْمَاءِ، وَذَلِكَ أَحَدُ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَعْطَاهُ اللهُ لِيَتَحَقَّقَ عِنْدَ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ أَمَرُهُ، وَإِنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلِيَزْدَادُوا مِنْ أَمْرِهِ وَصِدْقِهِ بِذَلِكَ بَصِيرَةً.
وَمِنْ ذَلِكَ الْإِبَاحَةُ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ مُهَادَنَةَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، عَلَى غَيْرِ مَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانَ حَتَّى يُسْلِمُوا، وَقِتَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، وَإِنَّمَا فَرَضَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أَطَاقَ قِتَالَهُمْ، دُونَ مَنْ لَهُ مُهَادَنَتُهُمْ مِمَّنْ يَعْجَزُ عَنْ قِتَالِهِمْ، إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ يَرْجُو أَنْ يَقْوَى إِلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ، إِذَا مِنْ يُخَلِّفُ عَنِ الْقِتَالِ لِلْعُذْرِ غَيْرُ آثَمٍ، وَلَا حَرَجَ، وَقَدْ وَادَعَ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ نَاسًا عَلَى غَيْرِ مَالٍ أَخَذَهُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ أَحْوَطَ لِلْمُسْلِمِينَ مُهَادَنَةُ عَدُوِّهِمْ إِلَى مُدَّةٍ يَقْوَوْنَ بِانْقِضَائِهَا عَلَيْهِمْ، فَهَادَنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ، يَأْمَنُ فِيهِنَّ النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَيُقَالُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: ١].
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute