وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ صَالَحَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّمَا صَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى جِهَةِ النَّظَرِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى لِكَثْرَةِ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، وَعَزْمِهِمْ عَلَى مَنْعِهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، وَطَلَبًا لِلتَّفَرُّغِ لِقِتَالِ غَيْرِهِمْ، وَأَمْنًا لِمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِيَتَقَوَّى لِحَرْبِهِمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ مُهَادَنَةُ الْعَدُوِّ عَلَى النَّظَرِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، لَا يَجُوزُ مُهَادَنَتُهُمْ إِلَى غَيْرِ مُدَّةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْكَفَّ عَنْهُمْ عَلَى الْأَبَدِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ قِتَالَهُمْ مَتَى قُدِرَ عَلَيْهِ يَجِبُ إِذَا كَانُوا أَهْلَ أَوْثَانٍ حَتَّى يُسْلِمُوا، وَقِتَالُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَجِبُ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، وَإِذَا هَادَنَهُمْ عَلَى غَيْرِ مُدَّةٍ، كَانَ ذَلِكَ عَقْدًا خِلَافَ ظَاهِرِ كِتَابِ اللهِ، وَذَلِكَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَقْدًا خِلَافَ أَمَرِ اللهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ إِنَّمَا صَالَحَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْ قِتَالِهِمْ، أَلَا تَرَاهُ أَخْبَرَ أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، وَلَمْ يُصَالِحْهُمْ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ، لِأَنَّهُمْ أَقْوَى مِنْهُ، وَأَكْثَرُ عَدَدًا وَعُدَّةً مِنْهُ، بَلْ طَمَعًا أَنْ يُسْلِمُوا أَوْ بَعْضُهُمْ.
وَفِي مُهَادَنَةِ الْإِمَامِ أَهْلَ الشِّرْكِ مُدَّةً أَطْوَلَ مِنْ مُدَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُهَادِنَ قَوْمًا أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْصَى مَا يُحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ هَادَنَ قَوْمًا، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ فَرَضَ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا هَادَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ، كَانَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ مَعَ الْعُذْرِ الْمَوْجُودِ أَقْصَى مُدَّةً، يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُهَادِنَ إِلَى مِثْلِهَا عَلَى الصَّلَاحِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَبِهِ أَقُولُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute