نشأة مدّ إسلامي زاخر عظيم ينتشر في مشرق العالم وغربه، تتساقط أمامه قوة الروم وتتهاوى بين يديه عظمة فارس، وتذوب من حوله قيم النظم والحضارات.
ثمن من الجهاد والصبر والتعب وخوض الشدائد، كان من السهل جدا على الله عزّ وجلّ أن يقيم دعائم المجتمع الإسلامي بدونه. ولكن تلك هي سنّة الله في عباده، أراد أن يتحقق فيهم التعبّد له اختيارا، كما تحققت فيهم صفة العبودية له إجبارا.
ولا يتحقق التعبّد بدون بذل الجهد، ولا يمحّص الصادق من المنافق بدون عذاب أو استشهاد، وليس من العدل أن يكسب الإنسان الغنم دون أن يبذل على ذلك شيئا من الغرم.
من أجل ذلك كلّف الله الإنسان بأمرين اثنين:
١- إقامة شرعة الإسلام ومجتمعه.
٢- السير إلى ذلك في طريق شائكة مجهدة غير معبدة.
والآن فلنتأمل في هذه الثمار التي أخذت تبدو على رأس إحدى عشرة سنة من دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وطبيعتها، وكيفية نموها:
أولا: جاءت هذه الثمار المنتظرة من خارج قريش بعيدة عن قومه عليه الصلاة والسلام على الرغم من جواره معهم واحتكاكه بهم، فلماذا؟
قلنا في أوائل هذا الكتاب: لقد اقتضت حكمة الله الباهرة أن تسير الدعوة الإسلامية في سبيل لا تدع أي شك للمتأمل في طبيعتها ومصدرها، حتى يسهل الإيمان بها، ولا يقع أي التباس بينها وبين غيرها من الدعوات الأخرى. من أجل ذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أميّا لا يقرأ ولا يكتب، ومن أجل ذلك بعث في أمة من الأميين الذين لم يقتبسوا حضارة ولم يعرفوا بمدنية أو ثقافة معينة، ومن أجل ذلك جعله الله مثال الخلق الكريم والأمانة والنزاهة.
ومن أجل ذلك اقتضت حكمة الله عزّ وجلّ أن يكون أنصاره الأول من غير بيئته وقومه، حتى لا يظن ظان بأن دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت في حقيقتها دعوة قومية حاكتها رغبات قومه وظروف بيئته.
وهذا في الواقع من أجلّ الدلائل التي تكشف للمتأمل أن يدا إلهية تحوط حياة الدعوة النبوية وظروفها من كل جانب، كي لا توجد في أي جانب منها ثغرة لمطعن، يقوم به مشكك أو محترف غزو فكري.
وهذا ما قاله واحد من الباحثين الأجانب أنفسهم، فقد جاء في كتاب حاضر العالم الإسلامي، نقلا عن «دينه» قوله:
«إن هؤلاء المستشرقين الذين حاولوا نقد سيرة النّبي صلّى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب الأوربي المحض،