للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لبثوا ثلاثة أرباع قرن، يدققون ويمحصون بزعمهم، حتى يهدّموا ما اتفق عليه الجمهور من المسلمين من سيرة نبيّهم، وكان ينبغي لهم بعد هذه التدقيقات الطويلة العريضة أن يتمكنوا من هدم الآراء المقررة، والروايات المشهورة من السيرة النبوية، فهل تسنّى لهم شيء من ذلك؟ الجواب: لم يتمكنوا من إثبات أقل شيء جديد، بل إذا أمعنّا النظر في الآراء الجديدة التي أتى بها هؤلاء المستشرقون من فرنسيين وإنكليز وألمان وبلجيكيين وهولانديين، لا نجد إلا خلطا وخبطا، وإنك لترى كل واحد منهم يقرر ما نقضه غيره» «٣٦» .

ثانيا: يتجلى لدى التأمل فيما سردناه من كيفية بدء إسلام الأنصار، أن الله عزّ وجلّ قد مهّد حياة المدينة وبيئتها لقبول الدعوة الإسلامية، وأنه كان في صدور أهل المدينة تهيؤ نفسي لقبول هذا الدين، فما هي مظاهر هذا التهيؤ النفسي؟

لقد كان سكان المدينة المنورة خليطا من سكانها الأصليين وهم العرب المشركون واليهود المهاجرون إليها من أطراف الجزيرة، وكان المشركون ينقسمون إلى قبيلتين كبيرتين إحداهما الأوس، والثانية الخزرج.

وكان اليهود ثلاث قبائل: بني قريظة، وبني النضير، وبني قنيقاع.

ولقد احتال اليهود طويلا- كعادتهم- حتى زرعوا الضغائن بين قبيلتي الأوس والخزرج، فراح العرب يأكل بعضهم بعضا في حروب طاحنة متلاحقة. ويقول محمد بن عبد الوهاب في كتابه (مختصر سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم) : «أن الحرب لبثت بينهم مئة وعشرين سنة» «٣٧» .

وفي غمار هذه الخصومة الطويلة حالف كل من الأوس والخزرج قبيلة من اليهود، فحالف الأوس بني قريظة، وحالف الخزرج بني النضير وبني قنيقاع، وكان آخر ما بينهم من المواقع موقعة بعاث، وذلك قبل الهجرة بسنوات قليلة، وكان يوما عظيما مات فيه أكثر رؤسائهم.

وفي أثناء ذلك، كان كلما وقع شيء بين العرب واليهود، هدد اليهود العرب بأنّ نبيّا قد آن أوان بعثته وأنهم سيكونون من أتباعه، ويقتلونهم معه قتل عاد وإرم.

فهذه الظروف، جعلت لدى أهل المدينة تطلّعا إلى هذا الدين، وعلقت منهم آمالا قوية به، عسى أن تتوحد بفضله صفوفهم ويعود فيلتئم شملهم وتذوب وتمحى أسباب الشقاق مما بينهم.

ولقد كان هذا مما صنعه الله لرسوله، كما يقول ابن القيم في زاد المعاد «٣٨» : «حتى يمهد بذلك


(٣٦) حاضر العالم الإسلامي: ١/ ٣٣
(٣٧) مختصر سيرة الرسول: ١٢٤
(٣٨) زاد المعاد: ٢/ ٥٠، ط الحلبي.

<<  <   >  >>