للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الدلالة الثانية: خضوع حالات الغزو والمعاهدات والصلح بين المسلمين وغيرهم لما يسمى بالسياسة الشرعية أو ما يسميه بعضهم ب (حكم الإمامة) . وبيان ذلك أن مشروعية فرض الجهاد من حيث الأصل، حكم تبليغي لا يخضع لأي نسخ أو تبديل، كما أن أصل مشروعية الصلح والمعاهدات ثابت لا يجوز إبطاله أو اجتثاثه من أحكام الشريعة الإسلامية. غير أن جزئيات الصور التطبيقية المختلفة لذلك، تخضع لظروف الزمان والمكان وحالة المسلمين وحالة أعدائهم، والميزان المحكم في ذلك إنما هو بصيرة الإمام المتدين العادل وسياسة الحاكم المتبحر في أحكام الدين مع إخلاص في الدين وتجرد في القصد، إلى جانب اعتماد دائم على مشاورة المسلمين والاستفادة من خبراتهم وآرائهم المختلفة.

فإذا رأى الحاكم أنّ من الخير للمسلمين أن لا يجابهوا أعداءهم بالحرب والقوة، وتثبّت من صلاحية رأيه بالتشاور والمذاكرة في ذلك، فله أن يجنح إلى سلم معهم لا يصادم نصّا من النصوص الشرعية الثابتة، ريثما يأتي الظرف المناسب والملائم للقتال والجهاد. وله أن يحمل رعيته على القتال والدفع إذا ما رأى المصلحة والسياسة الشرعية السليمة في ذلك الجانب.

وهذا ما اتفق عليه عامة الفقهاء ودلّت عليه مشاهد كثيرة من سيرته صلّى الله عليه وسلم اللهم إلا إذا داهم العدو المسلمين في عقر دارهم وبلادهم، فإن عليهم دفعه بالقوة مهما كانت الوسيلة والظروف، ويعمّ الواجب في ذلك المسلمين والمسلمات كافة بشرط الحاجة وتوفر مقومات التكليف.

ثم إن الصحيح الذي اتفق عليه عامة الفقهاء أن هذه الشورى مشروعة ولكنها ليست بملزمة، أي إن على الحاكم المسلم أن يستنير بها في بحثه ورأيه، ولكن ليس عليه أن يأخذ بآراء الأكثرية مثلا لو خالفوه في رأيه.. ويقول القرطبي في هذا:

«المستشير ينظر في اختلاف الآراء، وينظر أقربها إلى الكتاب والسّنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منها عزم عليه، وأنفذه متوكلا عليه» «٧» .

٣- ولا شك أن الباحث ليتساءل: لماذا لم يقع جواب أبي بكر وعمر والمقداد موقعا كافيا من نفس الرسول صلّى الله عليه وسلم، وظل ينظر في وجوه القوم، حتى إذا تكلم سعد بن معاذ، اطمأن وطابت نفسه عند ذاك؟

والجواب، أن النّبي عليه الصلاة والسلام إنما كان يريد أن يعرف رأي الأنصار أنفسهم في ذلك الأمر: ترى هل سيصدرون في آرائهم وأحكامهم عن المعاهدة التي تمت بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حيث إنها معاهدة خاصة تستوجب الالتزام بها، وإذن فليس من حقه أن يجبرهم على القتال معه والدفاع عنه إلا في داخل المدينة كما تنص على ذلك المعاهدة. أم سيصدرون


(٧) الجامع لأحكام القرآن: ٤/ ٢٥٢

<<  <   >  >>