للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم إن نزول الملائكة للقتال مع المسلمين- إنما هو مجرد تطمين لقلوبهم، واستجابة حسية لشدة استغاثتهم اقتضاها أنهم يقفون مع أول تجربة قتال في سبيل الله، لأناس يبلغون ثلاثة أضعافهم في العدة والعدد. وإلا فإن النصر من عند الله وحده، وليس للملائكة أي تأثير ذاتي في ذلك. ومن أجل بيان هذه الحقيقة قال الله تعالى معلّلا نزول الملائكة: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال ٨/ ١٠] .

٨- (الحياة البرزخية للأموات) : في وقوف رسول الله صلّى الله عليه وسلم على فم القليب ينادي قتلى المشركين ويكلمهم بعدما ماتوا، وفيما قاله لعمر رضي الله عنه إذ ذاك، دليل واضح على أن للميت حياة روحية خاصة به، لا ندري حقيقتها وكيفيتها، وأن أرواح الموتى تظل حائمة حول أجسادهم، ومن هنا يتصور معنى عذاب القبر ونعيمه، غير أن ذلك كله إنما يخضع لموازين لا تنضبط بعقولنا وإدراكاتنا الدنيوية هذه، إذ هو مما يسمى بعالم الملكوت البعيد عن مشاهداتنا وتجاربنا العقلية والمادية. فطريق الإيمان بها إنما هو التسليم لها بعد أن تصلنا بطريق ثابت صحيح.

٩- ثم إن مسألة الأسرى، بما تضمنته من مشاورة الرسول صلّى الله عليه وسلم في شأنهم، وما أعقبها من حكم افتدائهم بالمال ثم نزول آيات تعتب على النّبي صلّى الله عليه وسلم وعلى أصحابه اتخاذ ذلك الحكم، نقول إن لهذه المسألة دلالات هامة:

أولا: (الأسرى واجتهاد الرسول صلّى الله عليه وسلم) : دلّتنا هذه الواقعة على أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد، والذين ذهبوا إلى هذا- وهم جمهور علماء الأصول- استدلوا على ذلك بمسألة أسرى بدر.

وإذا صحّ أن يجتهد، صحّ منه بناء على ذلك أن يخطئ في الاجتهاد ويصيب. غير أن الخطأ لا يستمر، بل لا بدّ أن تنزل آية من القرآن تصحح له اجتهاده، فإذا لم تنزل آية فهو دليل على أن اجتهاده صلّى الله عليه وسلم قد وقع على ما هو الحق في علم الله تعالى.

قال شارح اللمع: «وقد كان الخطأ عليه جائزا، إلا أنه لا يقرّ عليه، بل ينبّه عليه سريعا» ، وقال أبو إسحاق الشيرازي: «ومن أصحابنا من قال: ما كان يجوز عليه الخطأ، وهذا خطأ، لقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ، لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فيدل على أنه أخطأ» «٩» ، [التوبة ٩/ ٤٣] .

وقال الأسنوي في شرحه على المنهاج: «واختار الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز عليه الخطأ بشرط أن لا يقرّ عليه. ونقله الآمدي عن أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث» «١٠» .

وقال الإمام البيضاوي في تفسير قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى


(٩) انظر شرح اللمع لأبي إسحاق الشيرازي: ٨٢٤
(١٠) الأسنوي على المنهاج: ٤/ ٥٣٧

<<  <   >  >>