للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الأنفال ٨/ ٦٧] الآية.. «والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون، وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يقرّون عليه» .

وقد يستعظم البعض نسبة الخطأ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، متوهمين أن الخطأ هو الإثم أو الانحراف أو نحو ذلك مما يتنافى مع العصمة الثابتة للأنبياء. غير أن المقصود بالخطأ هنا عدم مطابقة اجتهاده صلّى الله عليه وسلم لما هو الكمال الثابت في علم الله عزّ وجلّ. وهو لا يتنافى مع عصمته صلّى الله عليه وسلم، بل هو مثاب من الله تعالى عليه. والناس مكلفون باتباعه في ذلك ما لم تتنزل عليه آية تصرفه إلى حكم آخر شأنه شأن الحاكم إذا اجتهد. وهكذا فإن اجتهاده صلّى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه وحي يتعلق به، له طرف ناظر إلى الناس، وطرف آخر يتعلق بعلم الله تعالى. فأما اجتهاده بالنسبة للطرف الأول، فلا يوصف بالخطأ البتة، لأن الناس مكلفون باتباعه على كل حال كاتباعهم لسائر المجتهدين من بعده، إذ لا سبيل لهم للاطلاع على الخفي الثابت في علم الله عزّ وجلّ. وأما اجتهاده بالنسبة للطرف الثاني أي المتعلق بعلم الله عزّ وجلّ، فخاضع لوصفي الصحة والخطأ، إذ هو قابل لموافقة ما هو الكمال الثابت في علمه عزّ وجلّ، ولعدم موافقته له. والكمال المطلق إنما هو لله عزّ وجلّ. ولقد كان عليه الصلاة والسلام يرقى في الكمالات متجاوزا المراحل التي كانت تبدو له نقصا وتقصيرا بالنسبة لما ارتقى إليه من بعد، وكان يستغفر الله من تلبسه بها كاستغفارنا من الذنوب، ويقول: «إنه ليغان على صدري فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» .

ثانيا: كما أن غزوة بدر هي أول تجربة للمسلمين في التضحية والقتال في سبيل الله تعالى وهم على ما كانوا عليه من الضعف والقلة، فكذلك هي أول تجربة لهم في رؤية الغنائم والأموال أمامهم في أعقاب المعركة، وهم على ما كانوا عليه من الفقر والحاجة. وقد عالجت الحكمة الإلهية تجربة القتال مع الضعف بأن ثبّت الله قلوبهم وطمأن نفوسهم- كما ذكرنا- بالخوارق الدالة على النصر.

ثم عالجت الحكمة الإلهية تجربة رؤية الغنائم والأموال مع الحاجة والفقر، بوسائل تربوية دقيقة، جاءت في وقتها المناسب، وقد تجلى أثر هذه التجربة في مشهدين، على أعقاب هذه الغزوة. أما المشهد الأول فحينما انهزم المشركون وتركوا وراءهم أموالهم المختلفة، فقد تسابق بعض المسلمين إليها واختلفوا بعضهم مع بعض في كيفية استحقاقهم لها وكادوا يشتجرون على ذلك، ولم يكن قد نزل بعد حكم توزيع الغنائم بين المقاتلين فراحوا يسألون النّبي عليه الصلاة والسلام وينهون إليه خصومتهم في الأمر. وعندئذ نزل قوله تعالى:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال ٨/ ١- ٢] .

<<  <   >  >>