للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فأنت تدري أن الآيتين لا تنطويان على جواب سؤالهم، بل فيهما صرف لهم عن الموضوع كله، إذ هي تقول: إن الأنفال ليست لأحد منهم، بل هي لله ورسوله، أما هم فعليهم إصلاح هذا الشقاق الذي وقع فيما بينهم وإطاعة الله في أوامره، واجتناب نواهيبه، فتلك هي وظيفتهم، أما المال والدنيا، فليعتمدوا فيهما على الله تعالى. فلما ثاب هؤلاء المسلمون إلى هدي هاتين الآيتين وصرفوا النظر عما اشتجروا من أجله نزلت آيات أخرى تقرر كيفية تقسيم الغنائم بين المقاتلين على اختلافهم. وهذه من أبرع الوسائل التربوية الدقيقة كما ترى.

وأما المشهد الثاني، فهو عندما تشاور النّبي صلّى الله عليه وسلم مع أصحابه في شأن الأسرى، فقد سكنت نفوسهم إلى افتدائهم بالمال. وقد كانت الملاحظة في ذلك هي الجمع بين الرحمة والرفق بالأسرى، عسى أن يرعووا ويؤمنوا بالله، والتعويض عما فات المهاجرين من أموالهم التي تركوها في مكة عسى أن يقع موقعا لديهم ويساعدهم على إصلاح شؤون دنياهم. وهذا الرأي الذي سكنت إليه نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدل على مدى شفقته على أصحابه. وهذه الشفقة هي التي جعلت يده صلّى الله عليه وسلم ترتفع بالدعاء للمهاجرين لما رآهم لدى خروجهم إلى بدر، وإن علائم الحاجة والفقر بادية عليهم قائلا:

«اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، وإنهم جياع فأشبعهم» «١١» .

ولكن الحكمة الإلهية لم ترد للمسلمين أن يجعلوا من النظرة إلى المال ميزانا أو جزء ميزان للحكم في قضاياهم الكبرى التي قامت على أساس النظرة الدينية وحدها مهما كانت الحال والظروف، إذ يوشك، لو تركوا لهذه النظرة وهم أمام أول تجربة من هذا النوع، أن يجري ذلك مجرى القاعدة المطردة فتستولي النظرة المادية على مثل هذه الأحكام التي ينبغي أن تظل متسامية في علياء لا يطولها شيء من أغراض الدنيا على اختلافها، ومن الصعب لمن سار وراء الدنيا أشواطا واستطاب مذاقها أن يرتد عنها ويفطم نفسه عن مذاقها.

روى مسلم عن عمر بن الخطاب أنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن قضى بافتداء الأسرى فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان. فقلت يا رسول الله: «أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» ، (شجرة قريبة من النّبي صلّى الله عليه وسلم) ، وأنزل الله عزّ وجلّ: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ- إلى قوله: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً «١٢» [الأنفال ٨/ ٦٧- ٦٩] .


(١١) أبو داود. عن جمع الفوائد: ٢/ ٩٠
(١٢) مسلم: ٥/ ١٥٨

<<  <   >  >>