عاشرا: وقد رأينا فيما يرويه البخاري رضي الله عنه، أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بدفن قتلى المسلمين بدمائهم ولم يصلّ عليهم، وجمع بين الرجلين في قبر واحد، وقد استدل من ذلك العلماء على أن الشهيد في معركة الجهاد لا يغسل ولا يصلى عليه، بل يدفن بدمائه. قال الشافعي رضي الله عنه:
جاءت الأحاديث من وجوه متواترة أنه لم يصل عليهم، وأما ما روي أنه صلّى الله عليه وسلم، صلى عليهم عشرة عشرة، وفي كل عشرة حمزة، حتى صلى عليه سبعين مرة فضعيف وخطأ «٣٣» . كما استدلوا بذلك أيضا على أنه يجوز عند الضرورة الجمع بين أكثر من واحد في القبر، أما بدون ضرورة فلا يجوز.
حادي عشر: وإذا تأملنا فيما أقدم عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع أصحابه فور عودتهم إلى المدينة من الخروج ثانية للحاق بالمشركين، اتضح لنا درس معركة أحد اتضاحا كاملا، وتبين لنا كل من نتيجتيها: السلبية والإيجابية، وظهر لنا بما لا يدع مجالا للتوهم أن النصر إنما يكون مع الصبر وإطاعة أوامر القائد الصالح واستهداف القصد الديني المجرد.
فقد رأينا أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكد يؤذّن في الناس للخروج مرة أخرى لطلب العدوّ، حتى تجمع أولئك الذين كانوا معه بالأمس، من بعد ما أصابهم القرح وأنهكتهم الجروح والآلام، ولم يسترح أحد منهم بعد في بيته أو يفرغ للنظر في حاله وجسمه، وانطلقوا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبتغون المشركين الذين لم تخمد بعد في رؤوسهم جذوة النشوة بالنصر. ولم يكن فيهم هذه المرة من يطمع في غنيمة أو غرض دنيوي، وإنما هو التطلع إلى النصر أو الاستشهاد في سبيل الله، وهم يسوقون بين يدي ذلك جراحاتهم الدامية، وقروحهم المؤلمة.
فما الذي كان من نتيجة ذلك؟
لا نشوة الظفر أو لذة الانتصار ربطت على قلوب المشركين ليتمموا نصرهم والتغلب على خصومهم، ولا وقع الهزيمة وآلام الجروح الكثيفة في المسلمين حال شيء من ذلك دون إقدامهم وانتصارهم.
وكيف كان السبيل؟ .. لقد كان السبيل إلى ذلك آية إلهية خارقة لتتمم الدرس والموعظة للمسلمين، وقع الرعب فجأة في قلوب المشركين وتصوروا كما أخبرهم صاحبهم الذي كان قد لمح المسلمين عن بعد، أن محمدا صلّى الله عليه وسلم وصحبه قد جاؤوا هذه المرة ومعهم الموت المؤكد لينثروه فيما بينهم، فارتدوا على أعقابهم بعد أن كانوا متجهين صوب المدينة، وانطلقوا سراعا إلى مكة لا يلوون على شيء! ..
أما كيف داخلهم هذا الرعب الغريب من المسلمين، وهم الذين كسروا شوكتهم ووضعوا