من أجل هذه الحقيقة لم تستطع الحكومة الأمريكية أن تلتزم بما آمنت به واعتقدت بفائدته يوم أقدمت على تحريم الخمر ومنع مداولتها في المجتمعات والنوادي، وذلك عام ١٩٣٣ م، إذ لم تمض سوى فترة وجيزة حتى نكص المقننون على أعقابهم، وارتدّوا مترنحين من ألم الحرمان فألغوا القانون الذي التزموه وراحوا يعبّون أقداحهم من جديد..
هذا على حين أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهم من هم من الثقافة والمدنية ومعرفة الأضرار والفوائد بالنسبة للأمريكيين اليوم- عمدوا بمجرد أن سمعوا أمر الله عز وجل لهم باجتناب الخمر، إلى دنان الخمر فأراقوها وإلى الأقداح فكسروها، وارتفعت أصواتهم تقول: «انتهينا يا رب انتهينا!» ...
والفرق بين الصورتين والواقعتين، أن ههنا شيئا قد وقر في القلب فكان هواه تبعا لأمر الله وأحكامه.
هذه المحبة، بل هذا الهوى المستحوذ على قلوب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الذي جعلهم يمدون نحورهم دون نحر رسول الله ويعانقون الموت في سبيل حفظ حياته عليه الصلاة والسلام.
وكم في غزوة أحد من المشاهد الرائعة التي تكشف عن أثر هذه المحبة إذ تغمر قلب صاحبها.
روى ابن هشام أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل سعد.
فنظر، فإذا هو جريح في القتلى وبه رمق. فقال له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات! .. قال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله عني السلام، وقل له:
إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم صلّى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف. قال الأنصاري: فلم أبرح حتى مات» .
ويوم تمتلئ أفئدة المسلمين في عصرنا هذا بنحو من هذه المحبة، بحيث تبعدهم قليلا عن شهواتهم وأنانيتهم، وتتغلب عليها، أقول: يوم يحدث هذا في أفئدة المسلمين فإنهم يصبحون خلقا آخر جديدا، وسينتزعون انتصارهم من بين شدقي الموت وسيتغلبون على أعدائهم، مهما كانت العقبات والسدود.
وإذا سألت عن السبيل إلى مثل هذه المحبة، فاعلم أنها في كثرة الذكر وكثرة الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي كثرة التأمل والتفكر في آلاء الله ونعمه عليك، وفي سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخلاقه وشمائله، وهذا كله بعد الاستقامة على العبادات في خشية وحضور، والتبتل إلى الله عز وجل بين الحين والآخر.