للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟

وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران ٣/ ١٤٤] .

ولقد اتضح الأثر الإيجابي لهذا الدرس، يوم أن لحق رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعلا بالرفيق الأعلى، فقد كانت شائعة أحد هذه، مع ما نزل بسببها من القرآن، هي التي أيقظت المسلمين ونبهتهم إلى الحقيقة، فودعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقلوبهم الحزينة، ثم رجعوا إلى الأمانة التي تركها بين أيديهم، أمانة الدعوة والجهاد في سبيل الله، فنهضوا بها أقوياء بإيمانهم أشداء في عقيدتهم وتوكلهم على الله تعالى.

تاسعا: ولنتأمل في وقع الموت على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهم من حوله يحمونه بأجسادهم من نبال المشركين وضرباتهم، يتساقطون الواحد منهم إثر الآخر تحت وابل السهام، وهم في نشوة عارمة وحرص حريص على حفظ حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لا يبالون بغير ذلك! .. فما هو مصدر هذه التضحية العجيبة؟.

إنه الإيمان بالله ورسوله أولا، ثم محبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثانيا، فهما معا سبب هذه التضحية الرائعة العجيبة. والمسلم يحتاج إليهما معا، لا يكفيه أن يدّعي الإيمان بما ينبغي الإيمان به من أمور العقيدة، حتى يمتلئ قلبه بمحبة الله ورسوله أيضا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» «٣١» .

وبيان ذلك أن الله عز وجل قد غرس في الإنسان عقلا وقلبا. أما الأول فلكي يفكر به فيؤمن بما يجب الإيمان به. وأما الثاني فلكي يستعمله في محبة من أمر الله بمحبته وبغض من أمر ببغضه. وإذا لم يشغل القلب بمحبة الله ورسوله والصالحين من عباده، فسيمتلئ ولا بد بمحبة الشهوات والأهواء والمحرمات. وإذا فاض القلب بمحبة الشهوات والأهواء فهيهات أن يصبح الاعتقاد وحده حاملا لصاحبه على أي عمل من أعمال التضحية أو الفداء.

وهذه الحقيقة من الأوليّات التي أقرها علماء التربية، والأخلاق، ودلت عليها التجارب البدهية، واسمع ما يقوله في ذلك جان جاك روسو في كتابه (اميل) :

«كم قيل وأعيد القول عن الرغبة في إقامة الفضيلة على العقل وحده، ويا له من أساس متين! .. أي أساس هذا؟! .. إن الفضيلة كما يقولون هي النظام، ولكن هل يستطيع الإيمان بالنظام أن يتغلب على مسرتي الخاصة؟ .. إن هذا المبدأ المزعوم ليس إلا لعبا بالألفاظ فالرذيلة هي حب النظام بشكل مختلف» «٣٢» .


(٣١) متفق عليه.
(٣٢) راجع التوسع في هذا البحث كتابنا: تجربة التربية الإسلامية في ميزان البحث.

<<  <   >  >>