للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من الأهمية والخطورة وهو يستدعي حينئذ من المسلمين أن ينشطوا في محاربته محاربة واعية فعالة، تقوم على أساس فهم الخطط الماكرة المختلفة التي يبيتها أعداء المسلمين للإجهاز عليهم.

وعليهم أن لا ينخدعوا بما يشاع من مشكلات الإنتاج والاقتصاد فذلك جزء من التخطيط نفسه.

ثالثا: تدلنا معالجة النبي صلّى الله عليه وسلم للمشكلة التي استغلها عبد الله بن أبيّ بن سلول، بالشكل الذي رأيناه، على مدى ما قد آتاه الله من براعة فائقة في سياسة الأمور وتربية الناس والتغلب على مشاكلهم. لقد كان ما سمعه صلّى الله عليه وسلم من كلام ابن سلول مسوغا كافيا لأن يأمر بقتله بحسب الظاهر، ولكنه صلّى الله عليه وسلم استقبل الأمر بصدر أرحب من ذلك، وسمع عن اللغط الذي جرى، والتناوش الذي وقع، والجيش فيه عدد كبير من المنافقين الذين يبحثون عن شيء مثل هذا ليقوموا ويقعدوا به، فلم يعالج الأمر بعاطفة متأثرة، وإنما ترك الحكمة وحدها هي التي تدبر. فكان أن أمر القوم بالمسير في وقت لم يكونوا يعتادونه، حتى يشغلهم السير عن الاجتماع على المحادثة والكلام. وظل يسير بهم بقية اليوم والليل كله وصدرا من اليوم الثاني، لا يدع لهم مجالا يفرغ فيه المنافقون للخوض فيما يريدون من باطل، فلما انحطوا بعد ذلك على الأرض لم يدع لهم التعب فرصة الحديث عن شيء، وذهب الجميع في سبات عميق.

وانتظر الناس أن يجدوا من الرسول صلّى الله عليه وسلم، إذا وصل إلى المدينة، شدة على المنافقين لا ريب أنها تتجلى في قتل عبد الله بن أبيّ بن سلول، فلذلك جاء إليه ابنه عبد الله رضي الله عنه يعرض على الرسول صلّى الله عليه وسلم أن يتولى هو قتل أبيه إذا كان يريد أن يحكم بذلك، ولكنه فوجئ من رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما لم يكن متوقعا حينما قال: «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا» .

وانظر إلى تعليل ذلك فيما قاله لعمر رضي الله عنه: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟» .

ولقد كان من نتيجة هذه الحكمة أن انحسر عن عبد الله بن أبيّ قومه فكانوا هم الذين يعنّفونه ويفضحون أمره إذا ما أراد أن يحدث شيئا، وأنت خبير أن المنافق يعتبر في الأحكام القضائية الدنيوية مسلما مع وجوب الحيطة والحذر منه.

وقبل أن تستغرق في التأمل فيما كان يتصف به صلّى الله عليه وسلم من البراعة في الحكمة والسياسة وتدبير الأمور، ينبغي أن أذكرك مرة أخرى، بأن كل هذه الصفات إنما تأتي من وراء صفة النبوة فيه، فهي كلها متفرعة عن كونه نبيا ورسولا إلى الناس، ومن الخطأ الفادح أن يعمد باحث فيحلل مثل هذه الصفات في حياته صلّى الله عليه وسلم، دون أن يربطها بمصدرها الأساسي الأول، وهو نبوته ورسالته صلّى الله عليه وسلم. وتلك خطة- كما بيّنا ذلك سابقا- يختارها محترفو الغزو الفكري لشغل المسلمين

<<  <   >  >>