للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عن التأمل بنبوته عليه الصلاة والسلام، ويتلقفها منهم أولئك الذين فاقوا حتى القردة في إتقان فن التقليد الأعمى.

رابعا: وأما قصة الإفك، فإنها حلقة فريدة من سلسلة فنون الإيذاء والمحن التي لقيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أعداء الدين. ولقد كانت هذه الأذيّة أشد في وقعها على نفسه صلّى الله عليه وسلم من كل تلك المحن السابقة، وتلك هي طبيعة الشر الذي يصدر من المنافقين، فهو دائما يكون أقسى من غيره وأبلغ في المكيدة والضرر، إذ تكون الفرص والأسباب خاضعة لهم أكثر من غيرهم. وخبر الإفك صورة فريدة للأذى الذي تفرد به المنافقون.

وإنما كانت هذه القصة أبلغ من غيرها في إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم، لأن كل ما كان قد كابده قبل ذلك من المحن التي تحدثنا عن طرف منها، أمور كان يتوقعها، وقد وطن نفسه لقبولها وتحملها، بل كان منها على ميعاد في طريق الدعوة، أما هذه فقد فوجئ بها.. لأنها ليس مما قد اعتاده، أو توقعه. إنها اليوم شيء آخر.. إنها شائعة، لو صحت لكانت طعنة نجلاء في أخص ما يعتز به، إنسان، أخصّ ما يتصف به الشرف والكرامة، وما الذي أدراه أنها شائعة صحيحة أو باطلة؟! ..

من هنا كانت هذه الأذية أبلغ في تأثيرها من كل ما عداها، لأنها جاءت لتلقي بشعوره النفساني في اضطراب مثير لا مناص منه. ومع ذلك فلو أن الوحي سارع إلى كشف الحقيقة وفضح إفك المنافقين لكان في ذلك مخلص من هذا الاضطراب والشكوك المثيرة، ولكن الوحي تلبث أكثر من شهر لا يعلّق على ذلك، فكان ذلك مصدرا آخر للقلق والشكوك.

ومع ذلك فإن محنة الإفك هذه، جاءت منطوية على حكمة إلهية اتجهت إلى إبراز شخصية النبي صلّى الله عليه وسلم، وإظهارها صافية مميزة عن كل ما قد يلتبس بها. إن معنى النبوة في حياته صلّى الله عليه وسلم كان من المحتمل أن يبقى مشوبا، في وهم بعض المؤمنين به، والكافرين، على السواء، لو لم تأت حادثة الإفك هذه لتهز شخصية النبي صلّى الله عليه وسلم، هزا قويا يفصل إنسانيته العادية عن معنى النبوة الصافية فيه، ثم لتجلي معنى النبوة والوحي تجلية تامة أمام الأنظار والأفكار، حتى لا يبقى أي مجال التباس بينه وبين أي معنى من المعاني النفسية أو الشعورية الأخرى.

لقد فاجأت هذه الشائعة سمع النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو في طور من إنسانيته العادية، يتصرف ويتأمل ويفكر كأي أحد من الناس ضمن حدود العصمة المعروفة للأنبياء والمرسلين، فاستقبلها كما يستقبل مثلها أي بشر من الناس، ليس له اطلاع على غيب مكنون ولا ضمير مجهول، ولا على قصد ملفّق كاذب. فاضطرب كما يضطربون، وشك كما يشكون، وأخذ يقلّب الرأي على وجوهه، ويستنجد في ذلك بمشورة أولي الرأي من أصحابه.

وكان من مقتضى الحكمة الإلهية في إبراز هذا الجانب الإنساني المجرد فيه صلّى الله عليه وسلم، أن يتأخر

<<  <   >  >>