للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الوحي كل هذه الفترة التي تأخرها، كي تتجلى للناس حقيقتان، كل منهما على غاية من الأهمية:

أما الحقيقة الأولى، فهي أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يخرج بنبوته ورسالته عن كونه بشرا من الناس، فلا ينبغي لمن آمن به أن يتصور أن النبوة قد تجاوزت به حدود البشرية، فينسب إليه من الأمور أو التأثير في الأشياء ما لا يجوز نسبته إلا لله وحده.

وأما الحقيقة الثانية، فهي أن الوحي الإلهي ليس شعورا نفسيا ينبثق من كيان النبي صلّى الله عليه وسلم كما أنه ليس شيئا خاضعا لإرادته أو تطلعه وأمنياته. إذ لو كان كذلك، لكان من السهل عليه أن ينهي هذه المشكلة من يوم ميلادها ويريح نفسه من ذيولها ونتائجها، ويجعل مما يعتقد من الخير والاستقامة في أهله قرآنا يطمئن به أصحابه المؤمنين، ويسكت الآخرين من أصحاب الفضول.

ولكنه لم يفعل، لأنه لا يملك ذلك.

ولننقل لك ما يقوله في بيان هذه الحقيقة الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) يقول: «ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة رضي الله عنها، وأبطأ الوحي وطال الأمر والناس يخوضون، حتى بلغت القلوب الحناجر، وهو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس: «إني لا أعلم عنها إلا خيرا» ثم إنه بعد أن بذل جهده في التحري والسؤال واستشارة الأصحاب ومضى شهر بأكمله والكل يقولون: «ما علمنا عليها من سوء» ، لم يزد على أن قال لها آخر الأمر: «يا عائشة أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله» .

هذا كلامه بوحي ضميره، وهو كما ترى كلام البشر الذي لا يعلم الغيب، وكلام الصديق المتثبت الذي لا يتبع الظن ولا يقول ما ليس له به علم، على أنه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلنا براءتها ومصدرا الحكم المبرم بشرفها وطهارتها.

فماذا كان يمنعه- لو أن أمر القرآن إليه- أن يتقول هذه الكلمات الحاسمة من قبل ليحمي بها عرضه ويذبّ بها عن عرينه وينسبها إلى الوحي السماوي، لتنقطع ألسة المتخرّصين؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «٦٥» [الحاقة ٦٩/ ٤٤- ٤٧] .

ولقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها، أول من تجلّت لها هاتان الحقيقتان، حتى ذهبت في توحيدها وعبوديتها لله وحده مذهبا أنساها ما سواه ومن سواه، فلذلك أجابت أمّها حينما طلبت إليها أن تقوم فتشكر النبي صلّى الله عليه وسلم قائلة: «لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي» .


(٦٥) النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز: ص ١٧

<<  <   >  >>