المدينة، بل اشترك معهم بنو قريظة الذين كانوا لا يزالون مرتبطين بعهود ومواثيق مع المسلمين، دون أن يجدوا منهم أي مكروه من شأنه أن يدعوهم إلى نقض تلك العهود والمواثيق! ..
ولم نعد بحاجة إلى أن نعلّق على هذا ونحوه، ونستنبط منه العظات أو الدروس، فهو من جليات الأمور التي أصبحت من المقولات التاريخية المعروفة في كل زمان ومكان.
ولنعد الآن إلى هذا الذي استعرضناه من وقائع هذه الغزوة ومشاهدها لنقف على ما تنطوي عليه من دروس وعظات وأحكام، وسنلخصها في الأمور التالية:
أولا: لقد كان من جملة الوسائل الحربية التي استعملها المسلمون في هذه الغزوة حفر الخندق، ولقد كانت غزوة الأحزاب أول غزوة في التاريخ العربي والإسلامي يحفر فيها الخنادق، إذ هو مما كان متعارفا بين الأعاجم فقط، وقد رأيت أن الذي اقترح ذلك في غزوة الأحزاب إنما هو سلمان الفارسي، وقد رأيت أن النبي صلّى الله عليه وسلم أعجب بهذه الوسيلة الحربية وسرعان مادعا أصحابه إلى القيام بتحقيقها.
وهذا من جملة الأدلة الكثيرة التي تدل على أن الحكمة هي ضالة المؤمن، فحيثما وجدها التقطها بل هو أولى بها من غيره، وأن الشريعة الإسلامية بمقدار ما تكره للمسلمين اتباع غيرهم وتقليدهم على غير بصيرة، تحب لهم أن يجمعوا لأنفسهم أطراف الخير كله والمبادئ المفيدة جميعها، أينما لاح لهم ذلك، وحيثما وجد. فالقاعدة الإسلامية العامة في هذا الصدد، هي أن لا يعطل المسلم عقله الحر وتفكيره الدقيق في سلوكه وعامة شؤونه وأحواله، وإذا كان المسلم كذلك، فهو ولا ريب، لا يمكن أن يربط في عنقه زماما يسلّم طرفه للآخرين فيقودوه حيثما أرادوا بدون وعي ولا بصيرة، وهو أيضا لا يمكن أن يتجاهل أي مبدأ أو عمل أو نظام يسلّم به العقل النيّر والفكر الحر وينسجم مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ليتجاوزه ولا يتعب نفسه بأخذه والاستفادة منه.
وهذا السلوك الذي شرعه الله للمسلم، إنما ينبع من أصل أساسي هو الكرامة التي فطر الله الإنسان عليها إذ قضت مشيئته أن يكون هو سيد المخلوقات. وما ممارسة العبودية لله تعالى والتزام أحكام شريعته إلا ضمان لحفظ هذه الكرامة والسيادة.
ثانيا: وفيما استعرضناه من مشهد عمل الصحابة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حفر الخندق، عبرة بالغة كبرى، توضح لك حقيقة المساواة التي يرسيها المجتمع الإسلامي بين جميع أفراده المسلمين، وتكشف لك أن العدالة والمساواة، ليستا في الاعتبار الإسلامي مجرد شعارات يزين بها ظاهر المجتمع أو يوضع منه في إطار لامع براق، وإنما العدالة والمساواة هما الأساس الواقعي الذي تنبثق منه القيم والمبادئ الإسلامية عامة ظاهرا وباطنا.