للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فأنت تجد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يندب المسلمين إلى حفر الخندق، ثم ذهب يراقبهم في قصر منيف له مستريحا هادئا، ولا أقبل إليهم في احتفال صاخب رنان ليمسك معول أحدهم بأطراف أصابعه، فيضرب به ضربة واحدة في الأرض إيذانا ببدء العمل وتخييلا لهم أنه قد شاركهم في ذلك، ثم يلقي المعول ويدير إليهم ظهره، ينفض عن حلته ما قد علق بها من ذرات غبار..

ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد انخرط في العمل كأي واحد من أصحابه، حتى لبس ثوبا من الأتربة والغبار على جسمه فما تفرقه عن أي عامل آخر من صحبه وإخوانه، يرتجزون لينشط بعضهم بعضا، فيرتجز معهم، ويتعبون ويجوعون فيكون أولهم تعبا وجوعا. وتلك هي حقيقة ما أقامته الشريعة الإسلامية من مساواة بين الحاكم والمحكوم والغني والفقير والصعلوك والأمير، وأنت لا تجد فرعا من فروع الشريعة وأحكامها إلا قائما على هذا الأساس ضامنا لهذا الحق.

وأعيذك أن تخطئ، فتسمي هذا ديموقراطية في السلوك أو الحكم، فشتان ما بينهما من الفرق.

مصدر هذه العدالة والمساواة في الدين الإسلامي، هو العبودية لله تعالى. وهي صفة عامة شاملة للناس كلهم، تضعهم في صف واحد من المكانة والاعتبار. ومصدر ما يسمونه بالديموقراطية، تحكيم رأي الأكثرية أي تأليه رأي الأكثرية على الآخرين، مهما كانت طبيعة ذلك الرأي ومرماه.

من أجل هذا، لا تعوج الشريعة الإسلامية على شيء مما يسمى بالامتيازات لأي طبقة أو فئة من الناس، ولا تخص جماعة منهم بحصانة ما مهما كانت الدوافع والأسباب، لأن صفة العبودية من شأنها أن تذيب كل ذلك وتلغيه من الاعتبار.

ثالثا: وفي هذا المشهد نفسه أيضا عظة وعبرة أخرى تكشف لك عن مظهر النبوة في شخصية النبي صلّى الله عليه وسلم، وتضعك أمام مدى ما كانت تمتلئ به نفسه من محبة أصحابه والشفقة عليهم وتعطيك مثالا آخر للخوارق والمعجزات التي أكرم الله بها نبيه صلّى الله عليه وسلم.

فأما ما يتجلى من شخصيته النبوية في هذا المشهد، فذلك يبدو في مكابدته صلّى الله عليه وسلم للجوع الشديد أثناء عمله مع أصحابه، حتى إنه ليشد الحجر على بطنه، يتقي بذلك ما يجده الجائع من ألم الفراغ في معدته، ترى ما الذي يمكن أن يحمله على معاناة مثل هذه المشقة والجهد؟ أهو التطلع إلى الزعامة! .. أم هي الرغبة في المال والملك! .. أم هو الطموح إلى أن يجد من حوله شيعة وأتباعا! .. كل هذه المطامع، تناقض مناقضة صارخة هذا الذي يكابده ويعانيه، وما أبعد الرجل الذي يطمع في جاه أو ملك أو سلطان عن الصبر على تحمل مثل هذه الآلام.

إن الذي يحمله على تحمل كل ذلك إنما هو مسؤولية الرسالة والأمانة التي كلف بتبليغها

<<  <   >  >>