وقد أجمع العلماء عليه في شأن الخوارج، فإنهم أنكروا على عليّ التحكيم، وأقام الحجة عليهم.
وفيه جواز مصالحة أهل قرية أو حصن على حكم حاكم مسلم عدل صالح للحكم أمين على هذا الأمر، وعليه الحكم بما فيه مصلحة المسلمين، وإذا حكم بشيء لزم حكمه، ولا يجوز للإمام ولا لهم الرجوع، ولهم الرجوع قبل الحكم «٩٠» .
ثالثا:(مشروعية الاجتهاد في الفروع وضرورة وقوع الخلاف فيها) ، وفي اختلاف الصحابة في فهم كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم:«ألا لا يصلّين أحد العصر إلا في بني قريظة» على النحو الذي روينا، مع عدم تعنيف النبي صلّى الله عليه وسلم أحدا منهم أو معاتبته، دلالة هامة على أصل من الأصول الشرعية الكبرى، وهو تقرير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، واعتبار كل من المتخالفين معذورا ومثابا، سواء قلنا أن المصيب واحد أو متعدد كما أن فيه تقريرا لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية. وفيه ما يدل على أن استئصال الخلاف في مسائل الفروع التي تنبع من دلالات ظنية، أمر لا يمكن أن يتصور أو يتم، فالله سبحانه وتعالى تعبّد عباده بنوعين من التكاليف:
أولهما: تطبيق أوامر معينة واضحة تتعلق بالعقيدة أو السلوك.
ثانيهما: البحث وبذل الجهد ابتغاء فهم المبادئ والأحكام الفرعية من أدلتها العامة المختلفة، فليس المطلوب ممن أدركته الصلاة في بادية التبست عليه جهة القبلة فيها، أكثر من أن تتجلى عبوديته لله تعالى في أن يبذل كل ما لديه من وسع لمعرفة جهة القبلة حسب فهمه وما يبدو له من أدلة، حتى إذا سكنت نفسه إلى جهة ما، استقبلها فصلّى إليها.
ثم إن هنا لك حكما باهرة لمجيء كثير من الأدلة والنصوص الشرعية ظنية الدلالة غير قطعية. من أبرزها، أن تكون الاجتهادات المختلفة في مسألة ما، كلها وثيقة الصلة بالأدلة المعتبرة شرعا، حتى يكون للمسلمين متسع في الأخذ بأيّها شاؤوا حسبما تقتضيه ظروفهم ومصالحهم المعتبرة وتلك من أجلى مظاهر رحمة الله بعباده، في كل عصر وزمن.
وإذا تأملت هذا، علمت أن السعي في محاولة القضاء على الخلاف في مسائل الفروع، معاندة للحكمة الربانية والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنه ضرب من العبث الباطل. إذ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألة ما مادام دليلها ظنيا محتملا؟ .. لو أمكن ذلك أن يتم في عصرنا، لكان أولى العصور به عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولكان أولى الناس بأن لا يختلفوا هم أصحابه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما قد رأيت؟!.
رابعا:(تأكد اليهود من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم) ، لقد رأيت من مجرى كلام كعب بن أسد مع إخوانه اليهود، أنهم كانوا على يقين من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وعلى اطلاع تام على ما أثبتته التوراة من