المطوي في علم الله وحده، ولذلك انتزع- كما قد رأيت- دهشة المسلمين أكثر مما اعتمد على فكرهم وتدبيرهم. ومن هنا، فإنّا نعتبر أمر هذا الصلح، بمقدماته ومضمونه ونتائجه، من الأسس الهامة في تقويم العقيدة الإسلامية وتثبيتها.
ولنتحدث أولا عن طرف من الحكم الإلهية العظيمة التي تضمنها هذا الصلح، والتي تجلت للعيان فيما بعد، حتى أضحت آية من آيات الله الباهرة، ثم نتحدث بعد ذلك عن الأحكام الشرعية التي تضمنتها وقائع هذا الصلح.
فمن الحكم الباهرة، أن صلح الحديبية كان مقدمة بين يدي فتح مكة. فقد كانت هذه الهدنة- كما يقول ابن القيّم- بابا له ومفتاحا. وتلك هي عادة الله سبحانه وتعالى، يوطّئ بين يدي الأمور التي تعلقت إرادته بإنجازها، مقدمات تؤذن بها وتدل عليها.
ولئن، لم يكن المسلمون قد تنبهوا لهذا في حينه، فذلك لأن المستقبل غائب عنهم، فأنّى لهم أن يفهموا علاقة الواقع الذي رأوه بالغيب الذي لم يتصوروه بعد؟
ولكن ما إن مضت فترة من الزمن، حتى أخذ المسلمون يستشفّون أهمية هذه الهدنة وعظيم ما قد انطوت عليه من خير. فإن الناس أمن بعضهم بعضا، واختلط المسلمون بالكفار ونادوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان متخفيا بالإسلام.
روى ابن هشام عن ابن إسحاق عن الزهري قال: «ما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه (أي من صلح الحديبية) إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر» .
ولذلك أطلق القرآن اسم الفتح على هذا الصلح، وذلك في قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح ٤٨/ ٢٧] .
ومن الحكم الجليلة أيضا، أن الله جلّ جلاله أراد بذلك أن يبرز الفرق واضحا بين وحي النّبوة وتدبير الفكر البشري، بين توفيق النّبي المرسل وتصرّف العبقري المفكّر، بين الإلهام الإلهي الذي يأتي من فوق دنيا الأسباب ومظاهرها، والانسياق وراء إشارة هذه الأسباب وحكمها. أراد الله عزّ وجلّ أن ينصر نبوة نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلم أمام بصيرة كل متأمل عاقل، ولعل هذا من بعض تفسير قوله تعالى: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً، أي نصرا فريدا في بابه، من شأنه أن ينبّه الأفكار السادرة والعقول الغافلة.