فمن هنا أعطى المشركين كل ما سألوه من الشروط، وتساهل معهم في أمور لم يجد أحد من الصحابة ما يسوّغ التساهل فيها، ولقد رأيت كيف استبدّ الضيق والقلق بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى إنه قال عن نفسه فيما بعد- فيما رواه أحمد وغيره-: ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، ولقد رأيت كيف ساد الوجوم القوم حينما أمرهم الرسول صلّى الله عليه وسلم بالحلق والنحر، ليعودوا إلى المدينة، رغم أنه كرر عليهم الأمر ثلاث مرات، لقد كان السّر في ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم إنما كانوا يتأملون في تصرفات النّبي صلّى الله عليه وسلم، وهم يقفون على أرض من البشرية العادية، فلا يتبصرونها إلا بمقدار ولا يفهمون منها إلا ما تفهمه عقولهم البشرية القائمة على الخبرات المحسوسة، على حين كان النّبي صلّى الله عليه وسلم واقفا من تصرفاته هذه فوق مستوى البشرية وخبراتها وأسبابها، كانت النّبوة المطلقة هي التي توجهه وتلهمه وتوحي إليه، وكان تنفيذ الأمر الإلهي هو وحده الماثل أمام عينيه.
يتضح لك هذا من جوابه لعمر بن الخطاب حينما أقبل إليه سائلا ومتعجبا، بل وربما مستنكرا. فقد قال له: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. ويتضح لك هذا أيضا من وصية النّبي صلّى الله عليه وسلم، لعثمان حينما أرسله إلى مكة ليكلم قريشا فيما جاء له النّبي صلّى الله عليه وسلم، فقد أمره أيضا أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله عزّ وجلّ مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان.
فلا غرو أن يدهش المسلمون لموقف رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي تمحض عن المفاهيم البشرية ومقاييسها في تلك الآونة. ولكن سرعان ما انتهت الدهشة وزال الغم واتضح المبهم، حينما تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهم سورة الفتح التي تنزلت عليه عقب الفراغ من أمر الصلح. وتجلى للصحابة رضي الله عنهم أن احتمالهم لتلك الشروط كان عين النصر لهم، وأن المشركين ذلّوا من حيث تأملوا العزّ، وقهروا من حيث أظهروا القدرة والغلبة. وظهر من وراء ذلك كله النصر العظيم لرسوله والمؤمنين دون أن يكون في ذلك أي اقتراح للعقول والأفكار.
فهل في أدلة العقيدة دليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم أبلغ من هذا الدليل وأظهر؟ ..
ولقد تضايق المسلمون بادئ الأمر من موافقة النّبي صلّى الله عليه وسلم على الشرط الذي أملاه سهيل بن عمرو:«من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردّ عليه» . وازداد ضيقهم لما أقبل أبو جندل (ابن سهيل بن عمرو) فارّا من المشركين يرسف في الحديد، فقام إليه أبوه آخذا بتلابيبه وهو يقول: «يا محمد، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال صدقت، فجعل ينتره ويجرّه ليردّه إلى قريش، وأبو جندل يصرخ بأعلى صوته يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا أبا جندل، اصبر