للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا أعطينا القوم عهودا، وإنا لا نغدر بهم» .

ولقد أخذ الصحابة ينظرون إلى هذا الأمر، وقد داخلهم من ذلك همّ عظيم.

ولكن، فما الذي تمّ بعد ذلك؟ .. «لقد جاء إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم بعد ذهابه إلى المدينة رجل آخر قد أسلم من قريش اسمه: أبو بصير، فأرسلوا في طلبه رجلين من المشركين ليستردّوه، فسلّمه الرسول صلّى الله عليه وسلم إليهما، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فغافل أبو بصير أحد حارسيه وأخذ منه سيفه فقتله، ففرّ الآخر. ثم عاد أبو بصير إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمّتك، قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم، ثم إنه خرج حتى أتى سيف البحر، وتفلت أبو جندل، فلحق به هناك، وأصبح ذلك المكان مثابة للمسلمين من أهل مكة، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير وإخوانه، فما كانوا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوا المشركين وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أن يقبلهم عنده ويضمهم إليه، فجاؤوا إلى المدينة» «٨» .

ولما كان فتح مكة، كان أبو جندل هذا، هو الذي استأمن لأبيه وعاش رضي الله عنه حتى استشهد في وقعة اليمامة «٩» .

وهكذا صحا أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلم من همهم ذاك، على مزيد من الإيمان بالحكمة الإلهية ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، روي في الصحيح أن سهيل بن سعيد رضي الله عنه قال يوم صفين: «أيها الناس، اتهموا رأيكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم لرددته!» .

ومرة أخرى نكرر ونقول: هل في أدلة العقيدة دليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم أبلغ من هذا الدليل وأظهر؟

ومن الحكم الجليلة أيضا، أن الله جلّت قدرته إنما أراد أن يجعل فتح مكة لنبيّه فتح مرحمة وسلم، لا فتح ملحمة وقتال، فتحا يتسارع الناس فيه إلى دين الله أفواجا، ويقبل فيه أولئك الذين آذوه وأخرجوه، يلقون إليه السلم ويخضعون له الجانب مؤمنين آيبين موحدين. فجعل من دون ذلك هذا التمهيد، تؤوب فيه قريش إلى صحوها وتحاسب فيها نفسها وضميرها، وتشترك هي الأخرى مع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أخذ العبرة من أمر هذا الصلح ومقدماته ونتائجه، فتنضج الآراء في الرؤوس وتتهيأ لقبول الحق الذي لا ثاني له.

وهكذا كان الأمر، كما ستعلم تفصيله في مكانه إن شاء الله تعالى.


(٨) من تتمة حديث البخاري السابق ذكره.
(٩) راجع الإصابة: ٤/ ٢٤

<<  <   >  >>