وإذا علمت أن التّبرك بالشيء إنما هو طلب الخير بواسطته ووسيلته علمت أن التوسل بآثار النّبي صلّى الله عليه وسلم أمر مندوب إليه ومشروع، فضلا عن التّوسل بذاته الشريفة.
للإنسانية السامية الصافية عن الشوائب، وللذوق الرفيع في مقاييس المعاملة والسلوك، وللإحساس المرهف في رعاية الآخرين والاهتمام بهم، وللنظافة والرتابة وأناقة الشكل والمظهر، وللتواضع المتناهي أمام كل فئات أصحابه. لم يكن يستقبل الوافدين إليه إلا بأنظف الثياب وأبهى الحلل. كان أشدّ ما يكون حرصا على أن لا يرى الناس منه إلا ما تسرّ به العين، وأن لا تقع أنوفهم منه إلا على أطيب رائحة. وقد ثبت أنه كان ينفق جلّ ماله في الطيب. لم يكن يأكل ثوما أو بصلا، أو أي طعام يتأذى الناس منه برائحة كريهة. ولما كان ضيفا في دار أبي أيوب الأنصاري، في أيامه الأولى من هجرته إلى المدينة، وعادت قصعة الطعام من عنده مرّة دون أن يطعم منها شيئا، فزع أبو أيوب وهرع إلى رسول الله يسأله عن سبب ذلك، فقال: «لقد شممت فيه رائحة تلكم الشجرة (أي الثوم) وأنا أناجى (أي يزورني الناس وأحادثهم) أما أنتم فكلوا» . وكان إذا مضى لقضاء حاجة، أبعد، ثم أبعد، حتى لا يقع الناس منه على أثر. وكان يرجّل شعره، ويتعهد فمه وأسنانه؛ وربما أبصر صفرة في أسنان بعض جلسائه، فتوجه إلى الجميع بنصيحة عامة ونقد رفيق، وقال: «مالكم تأتونني قلحا لا تتسوكون؟» . هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام، في بعض ما تتحدث عنه شمائله المعبرة عن سموّ أخلاقه، ورقة شعوره، وشفافية ذوقه، ونبل إحساسه. فهل ترى في هذه اللوحة الإنسانية النموذجية، مساحة ما، لقبول أي عبث أو تزوير وتشويه؟ إذن فليس في شيء من حديث عروة بن مسعود عن حبّ الصحابة لرسولهم، ما يلحق بالرسول أي منقصة في طبعه، أو يصمه بأي غلظة في تعامله وسلوكه، أو يبرزه في مظهر المدلّ زهوا على أصحابه، أو الدافع لهم إلى ما فعلوا. *** فإن أراد هذا الرجل أن يتحول، بعدئذ، بالنقد والاشمئزاز إلى أولئك الناس الذين ساقهم الحب إلى ما صنعوا، فإنّ عليه أن يتبيّن قبل كل شيء خصمه الحقيقي الذي أثار في نفسه بواعث النقد والاشمئزاز حتى لا يتهم البرآء ظلما وعدوانا. وإنما خصمه في هذه الدعوى هو الحب! ... الحب هو الذي حمل أولئك الناس على فعل ما وصفه عروة بن مسعود، وفعل ما هو أبلغ من ذلك! .. والحب، هو الذي ليّن تحت سلطانهم الحديد، وقرب إليهم البعيد، وجعل المستحيل بين أيديهم ممكنا، وجعل القبح جميلا، والملح الزّعاق حلوا طيب المذاق! .. هذا هو شأن الحب، وذلك هو جبروته وسلطانه. فإن علم هذا الرجل، أن في نواميس هذه الحياة سلطانا أقوى نفوذا إلى النفوس، وهيمنة على القلوب من سلطانه، فليشكه إليه، وليستعده عليه، وليصف له اشمئزاز نفسه، من هذا الذي يفعله الحب، بنفوس الناس، ومن العمل الذي يحملهم عليه! ... ولكن يا عجبا! .. يرى ويعلم هذا الرجل وأمثاله ما يفعله الحب الأرعن بأصحابه، أعني ذلك الحب الذي يتسلل إلى القلب في غفلة من العقل، أو مع تحدّ للعقل وأحكامه، إذ يسوقه إلى شذوذات عجيبة في السلوك ويزجّه في أوحال من المهانة والقذارة التي يشمئز من بيانها البيان، فلا يستعظم من ذلك شيئا، ولا تشعره نفسه الحساسة بأي قرف أو