للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بقربه صلّى الله عليه وسلم إلى ربّه، وبرحمته الكبرى للخلق. وبهذا المعنى توسل الأعمى به صلّى الله عليه وسلم في أن يردّ عليه بصره، فردّه الله عليه «١١» ، وبهذا المعنى كان الصحابة يتوسلون بآثاره وفضلاته دون أن يجدوا منه أي إنكار، وقد مرّ في هذا الكتاب بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النّبوة في الاستسقاء وغيره، وأن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة الحنبلي والصنعاني وغيرهم «١٢» .

والفرق، بعد هذا، بين حياته وموته صلّى الله عليه وسلم، خلط عجيب وغريب في البحث لا مسوّغ له.

رابعا: (حكم الوقوف على الإنسان وهو قاعد) ، لقد علمت مما سبق أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، كان واقفا على رأس النّبي صلّى الله عليه وسلم ومعه السيف، وكلما أهوى عروة بن مسعود بيده إلى لحية النّبي صلّى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، قائلا: «أخّر يدك عن وجه رسول الله» .

وقد كنّا ذكرنا فيما مضى عند الحديث عن غزوة بني قريظة- أنه لا يشرع القيام على رأس أحد وهو قاعد، وأن ذلك من مظاهر التعظيم الذي تعارفه الأعاجم فيما بينهم وأنكره الإسلام، وإنه التمثّل الذي نهى عنه الرسول صلّى الله عليه وسلم في قوله: «من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار» . فكيف كان الأمر على خلاف ذلك هنا؟

والجواب، أنه يستثنى من عموم المنع، مثل هذه الحالة بخصوصها، أي في حالة قدوم رسل للعدو إلى الإمام أو الخليفة، فلا بأس حينئذ من قيام حرس أو جند على رأسه، إظهارا للعزة الإسلامية، وتعظيما للإمام ووقاية له مما قد يفاجأ به من سوء «١٣» . أما في أعم الأحوال فلا يجوز ذلك لمخالفته مقتضى التوحيد والعقيدة الإسلامية، دون أي ضرورة إليه.

ويشبه هذا، ما مرّ بيانه، عند الحديث عن أبي دجانة في غزوة أحد، فقد قلنا: إن كل ما يدل على التكبر أو التجبر في المشي ممنوع شرعا ولكنه جائز في حالة الحرب بخصوصها بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم عن مشية أبي دجانة: إنها مشية يكرهها الله إلا في هذا الموضع.

خامسا: (مشروعية الهدنة بين المسلمين وأعدائهم) ، استدل العلماء والأئمة بصلح الحديبية


(١١) حديث توسل الأعمى برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ورجوع بصره إليه، حديث صحيح رواه الترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلا أعمى جاء إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم وهم جلوس معه، فشكا إليه ذهاب بصره فأمره بالصبر. فقال ليس لي قائد وقد شقّ عليّ فقد بصري. فقال: «ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي اللهم فشفّعه فيّ» . وفي بعض الروايات بزيادة: فإن كان لك حاجة فمثل ذلك. قال عثمان بن حنيف: فو الله ما تفرق بنا المجلس حتى دخل علينا فكان بصيرا.
(١٢) انظر ص ٤٦ من هذا الكتاب.
(١٣) انظر زاد المعاد لابن القيم: ٢/ ١١٤

<<  <   >  >>