للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقامت بينه وبينهم قرون أخرى، ازدادوا قربا إلى مبادئه ودعوته حتى بلغ هذا القرب مداه الأخير إبّان بعثة المصطفى عليه الصلاة والسلام! ..

أفهكذا يقرر التاريخ، أم إنه يقرر عكس ذلك تماما في أبسط ما تنطق به (ألف باؤه) الواضحة المفهومة؟!

كل باحث ومتأمل حرّ، يعلم أن العهد الذي بعث فيه محمد عليه الصلاة والسلام، إنما كان أبعد العهود الجاهلية عن هديه عليه الصلاة والسلام بالنسبة لسائر العهود السابقة الأخرى، والأطلال التي كانت لدى العرب عند بعثته من معالم الحنيفية ومبادئها، والتي كانت تتمثل في لمع خاطفة من كراهية الأصنام والترفع عن عبادتها وفي النزوع إلى بعض الفضائل والقيم التي أقرها الإسلام، هذه الأطلال لا تبلغ معشار ما كان بارزا واضحا منها لديهم قبل بضعة قرون. وقد كان المتوقع إذن حسب تصور هؤلاء الناس لمعنى النبوة والبعثة، أن تكون بعثته عليه الصلاة والسلام قبل الزمن الذي بعث فيه بعدة قرون وأجيال!! ..

*** وأما أناس آخرون، فقد طاب لهم أن يقرروا بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم لمّا لم يستطع القضاء على معظم ما كان معروفا لدى العرب من الأعراف والتقاليد والطقوس والاعتقادات الغيبية، عمد فأسبغ على كل ذلك ثوب الديانة وأخرجه مخرج التكليفات الإلهية، وبتعبير آخر: إنما أتى محمد عليه الصلاة والسلام ليضيف إلى جملة العقائد الغيبية عند العرب رقابة عليا قوامها شخصية إله قادر على ما يشاء، فعال لما يريد. فقد استمر العرب بعد الإسلام يؤمنون بالسحر وبالجن وبسائر العقائد المماثلة، كما أنهم ظلّوا على ما كانوا عليه من الطواف بالكعبة وتقديسها وأداء طقوس وشعائر معينة نحوها.

وإنما ينطلق هؤلاء في دعواهم هذه من فرضيتين اثنتين لا يريدون أن يتصوروا خطأهما بحال، الفرضية الأولى أن محمدا عليه الصلاة والسلام ليس نبيا. الثانية أن ما كان لدى العرب من بقايا عهد إبراهيم التي تحدثنا عنها، إنما هو من مخترعاتهم وتقاليدهم التي ابتدعوها مع الزمن من عند أنفسهم، فليس احترام الكعبة وتقديسها أثرا من آثار دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما أمره بذلك ربه، وإنما هو شيء نسجته البيئة العربية فكان تقليدا من جملة التقاليد العربية المختلقة.

وفي سبيل المحافظة على هاتين الفرضيتين أن لا يصيبهما أي خدش أو وهن، يغمض أربابهما العين عن جميع الأدلة والوقائع التاريخية الجلية الكبرى التي تقف في طريقهما أو التي تردّهما وتكشف عن زيفهما وبطلانهما.

<<  <   >  >>