للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

غير أن من المعلوم أن البحث عن الحقيقة لا يمكن أن يوصل الباحث إليها مادام أنه لا يخط السبيل نحوها إلا ضمن ما تسمح به الفرضية التي وضعها في ذهنه سلفا وقبل أي بحث. إن من المعلوم أن مثل هذا البحث إنما هو صورة من أوضح صور العبث المضحك.

ولذلك، فإننا لا نجد مناصا من أن نأخذ بعين الاعتبار كل دليل عقلي أو واقعة تاريخية لدى محاولة الوصول إلى أي حقيقة، مادمنا لا نقصد إلا الحقيقة الذاتية نفسها، وما دمنا لا نريد أن نكذب على أنفسنا وعلى الناس فنصطنع البحث الحر ابتغاء حمل الآخرين على فكرة معينة مهما كان شأنها ومهما كانت علاقتها بالحقيقة وواقع الأمر، لا لشيء إلا لمجرد التعصب لها.

فنحن لا يمكننا بحال أن نغمض الفكر عن دلائل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم المختلفة مثل ظاهرة الوحي ومعجزة القرآن وظاهرة التطابق بين دعوته ودعوة الأنبياء السابقين وجملة صفاته وأخلاقه، لمجرد أن تسلم لنا فرضية أن محمدا عليه الصلاة والسلام ليس بنبيّ.

كما أنه لا يمكننا أن نغمض الفكر عن التاريخ الذي ينص على بناء إبراهيم للكعبة المشرفة بأمر ووحي من الله جل جلاله وعن جملة ما تعاقب الأنبياء على الدعوة إليه من توحيد الله عز وجل والإيمان به وبالمغيبات المتعلقة بيوم الحشر والجزاء وما يتبعه من جنة ونار، مما دلت عليه نصوص الكتب السماوية السابقة وصدقه التاريخ ووعته الدهور والأجيال، لمجرد أن تسلم لنا فرضية أن ما نسميه (بقايا عهد إبراهيم) في العهد الجاهلي لم يكن إلا تقاليد ابتدعها الفكر العربي وأن محمدا عليه الصلاة والسلام إنما جاء ليطليها بطلاء الدين.

ومن الجدير أن تعلم أن الناس الذين يطيب لهم أن يزعموا هذا الزعم، لا يسوقون بين يدي زعمهم هذا ولا من خلفه أي برهان أو دليل مهما كان نوعه، إنما هو العرض المجرد لهذا التصور وبسطه في عبارات ممطوطة مكررة ليس إلا.

ولعلك تطلب مني مثالا على ذلك. إذن فدونك فاقرأ كتاب بنية الفكر الديني للمستشرق الإنكليزي المعروف (جيب) فستبصر حينئذ مدى ما تفعله العصبية العمياء بهؤلاء الناس، تلك العصبية العجيبة التي كثيرا ما تحمل صاحبها على أن يتجرد حتى من مقومات كرامته وأن يتباله أمام شوامخ الأدلة والحقائق الناصعة كي لا يلزم بالخضوع لها.

إن بنية الفكر الديني في الإسلام بنظر جيب إنما هي تلك العقائد والأفكار الغيبية عند العرب؛ (الإحيائية العربية) فقد تأمل محمد صلّى الله عليه وسلم فيها فغير ما أمكنه تغييره ثم عمد إلى الباقي مما لم يمكنه التخلص منه فكساه حلّة الدين والإسلام ثم لم ينس أن يدعمه بهيكل من الأفكار والمواقف الدينية الملائمة، وهنا واجهته المشكلة العظمى التي اعترضت سبيله، فهو يريد أن يبني هذه الحياة الدينية لا للعرب فقط بل لشعوب وأمم بأسرها، فكان أن أقام هذه الحياة ضمن منهج القرآن.

<<  <   >  >>