وتبين لكل باحث أيضا أن تلك المدرسة لم تكسب أربابها ودعاتها أي نهضة علمية كالتي نهضتها أوربا كما كانوا يوهمون أو يتوهمون. كل ما جنته أيدي ذلك (الإصلاح الديني) فقدان الحقيقتين معا، فلاهم على حقيقتهم الدينية أبقوا ولا على النهضة العلمية عثروا «١» .
٧- من أجل ذلك أردت أن يكون أهم عملي في هذا الكتاب هو الإقدام على إزالة بقية الأطلال القائمة لتلك المدرسة المذكورة.
إن المسلم لا ينبغي أن يحاول لحظة واحدة، فهم حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أنه عبقري عظيم أو قائد خطير أو داهية محنّك. فمثل هذه المحاولة ليست إلا معاندة أو معابثة للحقائق الكبرى التي تزخر بها حياة محمد عليه الصلاة والسلام. فلقد أثبتت هذه الحقائق الجلية الناصعة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان متّصفا بكل صفات السّمو والكمال الخلقي والعقلي والنفسي، ولكن كل ذلك كان ينبع من حقيقة واحدة كبرى في حياته عليه الصلاة والسلام، ألا وهي أنه نبي مرسل من قبل الله عزّ وجلّ. وإن من العبث الغريب أن نضع الفروع في موضع الأصل ثم نتجاهل وجود الأصل مطلقا!. ولا ريب أن الرّد على ذلك لا يكون إلا بلفت النظر إلى الأصل. بل إلى الأصل وحده.
كما أن المسلم لا ينبغي له أن يتصور أن المعجزة الوحيدة في حياته صلّى الله عليه وسلم إنما هي القرآن، مادام أنه لا ينكر أن له عليه الصلاة والسلام سيرة يحاول أن يفهم حياته من خلالها. أما إن كان ينكر وجود هذه السّيرة فإن عليه أن ينكر معجزة القرآن أيضا. إذ لم تبلغنا معجزات رسول الله المختلفة إلا من حيث بلغتنا منه معجزة القرآن. والإقدام على تأويل هذا وتسليم ذاك طبق ما يستهوي النفس ويتفق مع الغرض، إسفاف غريب في تصنع البحث والفهم، لا يقدم عليه من كان كريما على نفسه معتزا بعقله.
٨- وكان فيما رأيته من الرضا والحماس اللذين استقبل بهما القرّاء عملي هذا، أعظم دليل على أن كل هذا الذي أنفقه دعاة السوء ومحترفو الغزو الفكري من مستشرقين ومستغربين وأذناب وجهال، من وقت طويل وجهد عظيم وكتابات مستفيضة متلاحقة، لا يمكنه أن يتسبب في تحويل شيء من الحق إلى الباطل أو من الباطل إلى الحق، وعلى أن الحقيقة الفكرية لا يمكن أن تغتال، ولئن أمكن مخادعتها أو التلبيس عليها، فلن يكون ذلك إلا إلى أمد.. ثم ينحسر الخداع ويزول التلبيس وتشرق الحقيقة مرة أخرى من جديد. ويستفيد المتأملون والباحثون من ذلك عبرة تمدّ أفكارهم بمزيد من الحذر والوعي.
(١) أفردت للحديث عن هذه المدرسة ونقدها وتفصيل القول فيها فصلا مستقلا في هذه الطبعة ستجده بين المقدمات التي جعلتها مدخلا لهذا الكتاب.