- وإن غايتهم الشبع بعد الجوع- كي يقبل بعرض قريش؟ وهل يطمع أصحاب الثورة اليسارية بشيء أكثر من الحكم يكون في أيديهم والمال يكون في جيوبهم؟
ولقد قوطع محمد صلّى الله عليه وسلم ومعه أصحابه المسلمون عن سبيل كل معايشة اقتصادية واجتماعية مع بني قومه، فلم تترك سلعة تتسلل إلى أيديهم، ولم يترك طعام يدخل إلى بيوتهم، حتى راحوا يأكلون ورق الشجر، وهم على ذلك صابرون، محدقون برسولهم عليه الصلاة والسلام. أفهكذا يصنع من تعتلج وراء صدره الثورة من أجل لقمة العيش؟! ..
وعندما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهاجر إليها من قبله ومن بعده أصحابه، تركوا المال والأرض والممتلكات المختلفة واستقبلوا بوجوههم شطر المدينة المنورة، وقد تجردوا عن كل ما يتعلق به الطامعون في المال، لا يبتغون عن إيمانهم بالله بديلا، ولا يقيمون وزنا لدنيا فاتتهم ولملك أدبر عنهم، أفهذا هو الدليل على أنها ثورة يسارية قامت من أجل لقمة طعام؟! ..
قد يكون دليل هؤلاء الناس على ما يتصورون، ملاحظة الأمرين التاليين:
الأول: أن الجماعة الأولى من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم في مكة، كانت على الأغلب من الفقراء والموالي والمضطهدين، وهو يدل على أنهم ينفّسون باتباعهم محمدا صلّى الله عليه وسلم عن شيء من كربهم، وأنهم كانوا يتأملون مستقبلا اقتصاديا أفضل لأنفسهم في ظل الدين الجديد.
الثاني: أن هؤلاء الأصحاب، ما لبثوا بعد حين أن فتحت عليهم آفاق الدنيا، وأقبل إليهم الثراء والمال، وهو دليل على أن خطة الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت ترمي إلى تحقيق هذه الغاية.
وأنت إذا تأملت في استدلالهم على ما يتصورونه، بهاتين الملاحظتين، أدركت كم هو نصيب الخيال والوهم من عقولهم ومنهج تفكيرهم.
أمّا أن الجماعة الأولى من أصحابه صلّى الله عليه وسلم كانت على الأغلب من الفقراء والموالي، فنعم، ولكن ليس بين هذه الحقيقة وذلك الوهم أي علاقة أو نسب. إن شريعة تقضي بإرساء ميزان العدالة بين الناس، وبالضرب على يد كل ظالم وطاغية ومستكبر، من المسلم به أن يعرض عنها بل أن يحاربها أولئك الذين استمرؤوا حياة البغي والظلم، لأنها تحملهم المغارم أكثر من أن تقدم إليهم المغانم، كما أن من المسلم به أن يرحب بها كل مستضعف مظلوم، بل كل إنسان ليس له في تجارة البغي والاستغلال نصيب؛ لأنها تقدم لهم المغانم أكثر من أن تحملهم المغارم، أو لأنهم- على أقل تقدير- ليست لهم مع الناس مشكلات تجعلهم يستثقلون تبعاتها وتكاليفها.
إن معظم من كان حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كان مستيقنا أنه على حق وأنه نبي مرسل، ولكن أرباب الزعامة وعشاق العظمة والسيطرة، وجدوا من طبيعتهم وظروفهم ما أصبح عائقا لهم عن