[ذكر تعداد عائشة قول ابن عباس في رؤية النبي لربه من أعظم الفرية]
قال رحمه الله تعالى: [ذكر تعداد عائشة قول ابن عباس الذي ذكرناه من أعظم الفرية.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن محمد بن مخلد حدثنا أبو الربيع حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عبد ربه بن سعيد أن داود بن أبي هند عن عامر الشعبي عن مسروق بن الأجدع أنه سمع عائشة تقول: إن أعظم الفرية على الله من قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم ما في غد، قيل: يا أم المؤمنين وما رآه؟ قالت: لا، إنما ذلك جبريل رآه مرتين في صورته: مرة ملأ الأفق، ومرة ساد أفق السماء].
هذا هو الصواب، رأى جبريل مرتين: مرة في الأرض، ومرة في السماء، مرة في الوحي في الأرض عند البعثة، ومرة في السماء ليلة المعراج.
قال أبو حاتم: [قد يتوهم من لم يحكم صناعة الحديث أن هذين الخبرين متضادان وليسا كذلك، إذ الله جل وعلا فضل رسوله صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء حتى كان جبريل من ربه أدنى من قاب قوسين، ومحمد صلى الله عليه وسلم يعلمه جبريل حينئذ].
كان جبريل من ربه {قَابَ قَوْسَيْنِ} [النجم:٩]، والآية في سورة النجم {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:٨ - ٩]، (ثم دنا) جبريل (فتدلى) يعني: من النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كان جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى، وفي حديث الإسراء كذلك أنه دنا جبريل، وهذا هو الذي عليه أكثر الأحاديث، وما جاء في الحديث الآخر الذي رواه شريك بن أبي نمر: فدنا الله تعالى من نبيه فكان قاب قوسين أو أدنى، قيل: إن هذا من أوهام شريك، ولكن ذكر ابن القيم رحمه الله: أن الدنو والتدلي في حديث الإسراء غير الدنو والتدلي في سورة النجم، فالدنو والتدلي الذي في سورة النجم دنو جبريل وتدليه، والدنو الذي في حديث الإسراء دنو الرب وتدليه ومر معنا هذا في البخاري وشرحناه في كتاب التوحيد، وذكر العلماء: أن هذا من أوهام شريك، وينظر إذا كان شريك تابعه أحد أم لا؟ فإن لم يتابعه أحد فيكون من أوهامه وأغلاطه، وإن تابعه أحد فيكون هذا يؤيد ما قاله ابن القيم رحمه الله.
وجبريل رآه النبي بصورته الحقيقة التي خلق عليها في السماء مرة وفي الأرض عند البعثة.
(حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وجبريل من خلقه وبينه وبينه حجب عظيمة، فقد احتجب الله من جبريل وغيره، جاء في بعض الآثار التي فيها ضعف ذكر حجب كثيرة، وجاء في بعضها وفيها ضعف: أن جبريل سئل: هل رأيت ربك؟ قال: إن بيني وبينه سبعين حجاباً أو نحوه.
فالله لا يره أحد في الدنيا، ولما سأله موسى الرؤية قال: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:١٤٣]، إذا كان الجبل اندك ولم يثبت بتجلي الله، فالمخلوق من باب أولى، لأن المخلوق أضعف.
وكان جبريل يستفتح أبواب السماء وهو معه في الإسراء والمعراج.
قال: [فرآه صلى الله عليه وسلم بقلبه كما شاء].
وقوله: إن جبريل قد دنى من ربه قدر قاب قوسين يحتاج إلى دليل.
قال: [وخبر عائشة وتأويلها أنه لا يدركه: تريد به في النوم ولا في اليقظة، وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣]].
وهذا ليس بصحيح فرؤية الله في المنام ليس هناك مانع منها وشيخ الإسلام رحمه الله قرر بأن جميع الطوائف قالت برؤية الله في المنام إلا الجهمية، ولكن لا يلزم من ذلك كشف الحجب، ويقول: إن الإنسان يرى ربه على حسب اعتقاده، فإن كان اعتقاده صحيحاً رأى ربه في صورة حسنة، وإلا رآه على حسب اعتقاده، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أصح الناس اعتقاداً قال: (رأيت ربي في أحسن صورة)، وهو حديث اختصام الملأ الأعلى.
قال: [وقوله: لا تدركه].
وابن حبان رحمه الله له ملحوظات في العقيدة تخالف معتقد أهل السنة والجماعة، سيأتي الكلام عليها.
قال: [قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣]، فإنما معناه: لا تدركه الأبصار يرى في القيامة، ولا تدركه الأبصار إذا رأته؛ لأن الإدراك هو الإحاطة، والرؤية هي النظر].
والإحاطة قدر زائد على الرؤية، فالله يرى ولا يحاط به رؤيا، كما أنه يعلم ولا يحاط به علماً؛ لكمال عظمته، وكونه أكبر من كل شيء، وإذا كانت بعض المخلوقات يراها الإنسان ولا يحيط بها رؤيا، فأنت ترى السماء كلها من جميع الجهات، أو ترى جزءاً منها؟ وهي مخلوقة، والإنسان في المدينة يرى المدينة ولا يحيط بها رؤيا، ويرى الجبل ولا يحيط به رؤيا فالله أعلى وأجل وأعظم.
قال: [والله يرى ولا يدرك كنهه؛ لأن الإدراك يقع على المخلوقين، والنظر يكون من العبد ربه، وخبر عائشة أنه لا تدركه الأبصار، قيل: معناه لا تدركه الأبصار في الدنيا وفي الآخرة إلا من يتفضل عليه من عباده].
هذا قوله: (إلا من يتفضل عليه من عباده) الله تعالى يراه المؤمنون في الآخرة، وهذا ليس فيه أشكال.
قال: [بأن يجعل أهلاً لذلك، واسم الدنيا قد يقع على الأرضين والسماوات وما بينهما؛ لأن هذه الأشياء بدايات خلقها الله جل وعلا لتكتسب فيها الطاعات للآخرة التي بعد هذه البداية، فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الموضع الذي لا يطلق عليه اسم الدنيا؛ لأنه كان منه أدنى من قاب قوسين، حتى يكون خبر عائشة أنه لم يره صلى الله عليه وسلم في الدنيا من غير أن يكون بين الخبرين تضاد أو تهاتر].
يعني: ظاهره: أن ابن حبان يثبت الرؤية، وأنه قاب قوسين يعني: من الرب؛ وهذا هو الذي جاء في حديث شريك وقال العلماء: إنه وهم من شريك، قوله: قاب قوسين: أن هذا الرب، وإنما هذا جبريل، وفي كلام ابن حبان إيهام.