للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والثانية: الأقرب؛ لأن له جوارًا، فكان أحقّ بصلاته، كما أن الجار أحقّ بهدية جاره ومعروفه من البعيد .. ) (١).

وظاهرة تخطي المسجد الذي يليه تكثر في شهر رمضان المبارك عندما يتتبع الناس المساجد طلبًا لحسن الصوت في صلاة التراويح، أو صلاة التهجد، وأدى ذلك إلى هجر مساجد أخرى وخلوها من المصلين، وفي ذلك تفريق الجماعة وإضعاف نشاطهم ورغبتهم، ثم إنه انصراف من شاء الله من عباده عن الخشوع في الصلاة وحضور القلب إلى التعلق بمتابعة الصوت الحسن لذات الصوت، فأدى ذلك إلى تكرّه النفوس للصلاة خلف إمام لا يستحسن صوته (٢)، ومن الناس من لا يستقر على إمام معين فيظل ينتقل من مسجد إلى آخر طوال الشهر، وربما خرج من بعض المساجد قبل انصراف الإمام ونهاية التراويح؛ لأنه لم يعجبه صوته، فالله المستعان.

وقد ذكر ابن القيم في بدائع الفوائد عن محمد بن بحر قال: رأيت أبا عبد الله في شهر رمضان، وقد جاء فضل بن زياد القطان بأبي عبد الله التراويح، وكان حسن القراءة، فاجتمع المشايخ وبعض الجيران حتى امتلأ المسجد، فخرج أبو عبد الله، فصعد درجة المسجد، فنظر على الجمع، فقال: ما هذا؟ تدعون مساجدكم وتجيئون إلى غيرها، فصلى بهم ليالي، ثم صرفه كراهية لما فيه -يعني من إخلاء المساجد-، وعلى جار المسجد أن يصلي في مسجده (٣).

أما إذا وجد غرض صحيح لتخطي الإنسان مسجده إلى مسجد آخر، مثل أن يكون إمام مسجده لا يتم الصلاة (٤)، أو يرتكب بعض المخالفات، أو ضعيفًا في القراءة ونحو ذلك فلا بأس إن شاء الله، أو كان يفعل ذلك في بعض الأوقات لحضور درس أو محاضرة في المسجد الأبعد، أو لكون الأبعد يبادر في الصلاة والمأموم محتاج إلى ذلك فأرجو أن لا حرج، والله أعلم.

[الحكم الرابع والعشرون في إيذاء المصلين والتشويش عليهم]

المصلي يناجي ربه ويلهج بذكره ودعائه ويستحضر عظمته وهيبته وجلاله، ولا يليق بمسلم أن يقطع هذه المناجاة على أخيه بالأذية أو التشويش، وقد قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا .. " ويأتي بتمامه إن شاء الله، وقد شدد الإسلام في موضوع الأذية، واعتبرها من موجبات اللعن، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم" (٥).

ولا ريب أن الأذية في المساجد والتشويش على المصلين والذاكرين أعظم من الأذية في الطرق، وذلك منكر عظيم، ينبئ عن تساهل في احترام المساجد، ومراعاة المتعبدين، والمطلوب من المسلم الذي قصد بيتًا من بيوت الله أن يكون متحليًا بمكارم الأخلاق من السماحة والهدوء والمرحمة، ولا يليق به أن يهدم من جانب ويبني من جانب آخر.


(١) المغني (٣/ ٩).
(٢) انظر الرسالة القيمة المذكورة: للشيخ بكر أبو زيد (ص ٥٤).
(٣) انظر بدائع الفوائد (٤/ ١٤٩).
(٤) انظر: مجموع الفتاوى (٢٣/ ٣٤٢).
(٥) تقدم أول الكتاب.

<<  <   >  >>