للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بين الأدلة -كما تقدم في النفل عن كشاف القناع- ولهذا كان سلمة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي عندها النفل، كما في رواية مسلم: (أنه -أي سلمة- كان يتحرى موضع المصحف يسبح فيه)، قال النووي: (المراد بالتسبيح: صلاة النافلة) (١).

الثاني: أن الصلاة عند الأسطوانة معناها: أنه اتخذها سترة، ولهذا بوّب البخاري على هذا الحديث وقال: (باب الصلاة على الأسطوانة) (٢).

الثالث: أنه لم يحجز المكان الذي عندها، وإنما إذا رآه خاليًا صلى عندها، وأما فعل سلمة فلعله أراد الاقتداء بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنه يرى أن هذا من الأماكن الفاضلة؛ لكون الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى فيه (٣)، والله أعلم.

[الحكم الثالث والعشرون لا يهجر المسجد الذي يليه]

تقدم أول الكتاب أن من حكم مشروعية صلاة الجماعة حصول الألفة بين الجيران وأهل المحلة الواحدة، فيتعرف بعضهم على أحوال بعض، فيقومون بإغاثة الملهوف وعيادة المريض، وتفقد أحوال العاجز، كما يظهر في صلاة الجماعة الاجتماع والبعد عن التفرق والاختلاف، ثم التعاون على الطاعة، وهذا وغيره إنما يتم إذا صلى أهل المحلة الواحدة في مسجد واحد، ومن هنا رغب الإسلام المسلم في أن يؤدي صلاة الجماعة في المسجد الذي يليه، ولا يتخطاه إلى غيره، إلا لغرض شرعي مطلوب. وقد ورد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ليصل أحدكم في مسجده، ولا يتتبع المساجد" (٤).

إن تخطي الإنسان المسجد الذي بجواره إلى مسجد آخر يترتب عليه أمران محذوران في نظر الإسلام (٥):

الأول: هجر المسجد الذي يليه، فإذا ذهب هذا، وذهب هذا أدى ذلك إلى خلو المسجد عن جماعته، لا سيما مع قلتهم، ولا ريب أن عمارة المسجد، والتعاون على الطاعة، وتنشيط المتكاسل كل ذلك من المطالب العظيمة التي يتحقق بها قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى اَلبِرِّ وَاَلتَّقوَى} [المائدة: ٢].

الثاني: إيحاش صدر الإمام، وإساءة الظن به، والوقوع في عرضه وذلك بالخوض في الأسباب التي جعلت هذا الإنسان يتخطى مسجده إلى مسجد آخر، وقد يفتعل أسبابًا يبرر بها تصرفه، والإمام منها بريء، وهذا أمر ملاحظ، فإن الغالب أن من يتخطى مسجده إلى مسجد آخر بصفة دائمة إنما هو لسبب بينه وبين الإمام، لا لغرض شرعي.

قال في المغني: (وإن كان في قصد غيره -أي غير مسجده- كسر قلب إمامه أو جماعته فجبر قلوبهم أولى، وإن لم يكن كذلك فهل الأفضل قصد الأبعد أو الأقرب؟ فيه روايتان:

إحداهما قصد الأبعد، لتكثر خطاه في طلب الثواب، فتكون حسناته أكثر.


(١) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (٤/ ٤٧٢)، والقول المبين في أخطاء المصلين (ص ٧٨).
(٢) انظر فتح الباري (١/ ٥٧٧).
(٣) انظر شرح النووي (٤/ ٤٧٢).
(٤) أخرجه الطبراني في الكبير (١٢/ ٣٧٠)، والأوسط (٦/ ٨٢، ٨٣) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (٥/ ٢٣٤) و"صحيح الجامع" (٥٣٣٢).
(٥) ذكرها ابن القيم في "أعلام الموقعين" (٣/ ١٦٠) بإيجاز.

<<  <   >  >>