للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عليه في وضع عصا ونحوه حتى يرجع، وإذا رجع فهو أحق بمكانه؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به" (١).

قال النووي: (قال أصحابنا: هذا في حق من جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلًا، ثم فارقه ليعود إليه، كإرادة الوضوء، أو لشغل يسير ثم يعود، لا يبطل اختصاصه به، وله أن يقيم من خالفه وقعد فيه، وعلى القاعد أن يطيعه، واختلف: هل يجب عليه؟ على وجهين: أصحهما الوجوب)، قال: (ولا فرق بين أن يقوم منه ويترك له فيه سجادة ونحوها أم لا. والله أعلم) (٢).

ومن سبق إلى مكان في المسجد فهو أحق به، فلا يجوز إقامته من موضعه الذي سبق له سواء كان شريفًا أو وضيعًا، صغيرًا أو كبيرًا، إلا إذا حصل منه أذى، كآكل الثوم وشارب الدخان، فإنه يخرج من المسجد، كما تقدم أول الكتاب.

وقد ورد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا (٣).

وهذا الحديث عام في كل المجالس، ولكنه خاص بالمجالس المباحة وفي مقدمتها المساجد، قال ابن أبي جمرة: (والناس في المباح كلهم سواء، فمن سبق إلى شيء استحقه، ومن استحق شيئًا فأخذه منه بغير حق فهو غصب، والغصب حرام) (٤). وينبغي للجالسين في المسجد وغيره أن يتوسعوا وينضم بعضهم إلى بعض حتى يفضل من الجمع فجوة تسع الداخل، ولا سيما في مثل المسجد الحرام والجوامع الكبيرة، حيث يكون حصول فجوات بواسطة انضمام بعض الجالسين إلى بعض، شريطة ألا يحصل مضايقة وعدم ارتياح في العبادة من صلاة أو غيرها؛ لأن هؤلاء المتقدمين أولى من هذا المتأخر. واعلم أن ما ذكرنا في الأمر الرابع من النهي عن اتخاذ مكان في المسجد لا يصلي الرجل إلا فيه لا يشمل المنزل؛ بدليل حديث عتبان بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه- وفيه: أنه قال للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فوددت أنك تأتي فتصلي من بيتي مكانًا، اتخذه مصلى. فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "سأفعل" ... الحديث (٥).

قال الحافظ في فوائد الحديث: (وفيه أن النهي عن استيطان الرجل مكانًا إنما هو في المسجد العام) (٦). فإن قيل: ما الجواب عما ورد في حديث يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرى عند هذه الأسطوانة، قال: فإني رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتحرى الصلاة عندها (٧)؟

فالجواب من ثلاثة أوجه:

الأول: أن هذا محمول على النفل، وليس في الفرض، فيكون هذا الحديث مخصصًا لعموم النهي، جمعًا


(١) أخرجه مسلم (٢١٧٩)، وأبو داود (٤٨٥٣).
(٢) شرح النووي على صحيح مسلم (١٤/ ٤١٢).
(٣) أخرجه البخاري (٥٩١٤)، ومسلم (٢١٧٧).
(٤) انظر بهجة النفوس لابن أبي جمرة (٤/ ١٩٤).
(٥) أخرجه البخاري (٤١٥)، ومسلم (٣٣).
(٦) فتح الباري (٣/ ٦٢).
(٧) أخرجه البخاري (٥٠٢)، ومسلم (٥٠٩).

<<  <   >  >>