للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ركعتين بحذائه في حاشية المقام، وليس بينه وبين الطواف أحد (١)، وفي رواية: (وليس بينه وبين الطواف سترة)، فهذا قد استدل به من قال: لا سترة في المسجد الحرام.

ولكن هذا الإستدلال غير ناهض؛ لوجوه منها:

الأول: أن الحديث ضعيف؛ لأنه من رواية كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة عن بعض أهله عن جده، ففي إسناده مجهول وهو الواسطة بين كثير وجده وفيه علة أخرى، وهي الاختلاف في إسناده (٢).

الثاني: أنه فعل، وأحاديث الأمر بالسترة قول، وقد تقرر في الأصول أن فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يعارض القول الخاص بالأمة.

الثالث: أنه معارض بما هو أقوى منه، وهو ملازمة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اتخاذ السترة سفرًا وحضرًا الثابت بالأحاديث الصحيحة. وكذلك أمره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالسترة أمرًا صريحًا مطلقًا في نصوص كثيرة -كما تقدم-.

الرابع: أن الثابت في حديث جابر -رضي الله عنه- وغيره أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى بعد فراغه من الطواف خلف المقام، فيكون المقام سترة له. قال جابر -رضي الله عنه-: (وطاف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالبيت وصلى ركعتين، والمقام بينه وبين البيت .. ) (٣) ولهذا قال السندي -رحمه الله- على حديث المطلب: (قلت: لكن المقام يكفي سترة، وعلى هذا فلا يصلح هذا الحديث دليلًا لمن يقول: لا حاجة في مكة إلى سترة، فليتأمل) (٤).

ومن العلماء من يجيز المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام في حال الضرورة (٥) كالزحام الشديد للمشقة، ولا أعلم لذلك دليلًا. لكني أقول؛ ليت الأمر اقتصر في المسجد الحرام على حال الضرورة، كأيام الحج، ورمضان -مثلًا-؛ لأن الواجب على العبد أن يتقي الله ما استطاع، ولكن صار المرور شيئًا عاديًا لدى عموم الناس، حتى إن بعضهم ليمر بين يدي المتنفلين ذهابًا وإيابًا لأدنى حاجة، دون أن يحسّ بحرج، وهذا مما يشاهد ويؤسف عليه، إذ لا ريب أن المرور بين يدي المصلي فيه تشويش عليه وأذية له، فالله المستعان.

[الحكم الثامن لا يخرج من المسجد بعد الأذان]

من آداب حضور المساجد: أن لا يخرج المسلم بعد الأذان إلا لعذر؛ لأن الخروج إعراض عما يقتضيه الأذان من طلب الإقبال وحضور المساجد لأداء الصلاة؛ ولئلا يكون الخروج ذريعة إلى الاشتغال عن صلاة الجماعة والتأخر عنها، وقد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين .. " الحديث (٦).

قال ابن بطال: (يشبه أن يكون الزجر عن خروج المرء من المسجد بعد أن يؤذن من هذا المعنى؛


(١) أخرجه أحمد (٦/ ٣٩٩)، وأبو داود (٢٠١٦)، وابن ماجه (٢/ ٩٨٦)، والنسائي (٢/ ٦٧، ٥/ ٢٣٥)، واللفظ له.
(٢) انظر السلسلة الضعيفة للألباني (٩٢٨).
(٣) تقدم تخريجه قريبًا.
(٤) حاشية السندي على سنن النسائي (٢/ ٦٧).
(٥) انظر فتح الباري (١/ ٥٧٦).
(٦) أخرجه البخاري (٥٨٣)، ومسلم (٣٨٩).

<<  <   >  >>