للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إلى مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخًا) (١). قال في كشاف القناع: (ويكره اتخاذ غير الإمام مكانًا بالمسجد لا يصلي فرضه إلا فيه؛ لنهيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن إبطال المكان كإبطال البعير، ولا بأس باتخاذ مكان لا يصلي إلا فيه في النفل؛ للجمع بين الأخبار) (٢).

إن ملازمة الإنسان لمكان خاص في المسجد قد يفقده لذة العبادة؛ لكثرة إلفه له وحرصه عليه، كما أنه قد يؤدي إلى الشهرة والرياء والسمعة، وفيه الحرمان من تكثير مواضع العبادة التي تشهد له يوم القيامة (٣). وبعض الملازمين لمكان خاص يحقد على غيره إذا رآه في مكانه، وربما دعاه ذلك إلى إزاحة من سبقه إليه، أو التضجر منه.

ورحم الله إمام السنة أبا عبد الله أحمد بن حنبل الذي قال عنه المروزي: (كان أبو عبد الله يقوم خلف الإمام، فجاء يومًا وقد تجافى الناس أن يصلي أحد في ذلك الموضع، فاعتزل وقام في طرف الصف، وقال: نهي أن يتخذ الرجل مصلاه مثل مربض البعير) (٤).

الخامس: أن تقديم المفارش أو العصي يجعل صاحبها يتأخر عن الحضور اتكالًا على ذلك، وهذا مشاهد، فإذا حضر تخطى رقاب الناس وآذاهم فجمع بين التخطي والتأخر.

السادس: أن في التحجير ترفعًا على الآخرين، وإحساسًا بالفارق الذي قد يفضي بصاحبه إلى الغرور والكبر، دون أن يشعر به صاحبه، وإنك لترى شيئًا من ذلك باديًا على وجوه كثير من المتحجرين في المسجد الحرام، وكيف يتخطون رقاب الناس على أماكنهم بلا مبالاة، ويمرون بينهم وبين سترتهم وهم يتنفلون، وهذا من الشهرة والرياء.

السابع: أن هذا التحجر يحدث النزاع ويسبب العداوة والشحناء في أفضل البقاع، وهي المساجد التي لم تبن إلا لذكر الله تعالى وعبادته، وكم رأينا وسمعنا نزاعًا يقع في بيت الله الحرام حول هذه الأماكن المحجوزة، ولا سيما مع من يقومون بذود الناس عنها!

الثامن: أن هولاء المتحجرين -ولا سيما في المسجد الحرام- إذا كان في الصف الذي أمامهم فرجة محاذية لأحدهم لم يتقدم لسدها خوفًا على مكانه، بل منهم من لا يرص الصف، بل يطلب من غيره أن يقترب؛ لئلا يزول عن مكانه.

وهذا مخالف لنصوص الشريعة القاضية بسد الفرج والتراص في الصفوف. أما من كان في المسجد ووضع عصاه أو سجادته في مقدم الصف وصلى أو قرأ في مكان آخر؛ ليستند إلى عمود، أو ليراجع حفظه، ونحو هذا فلا حرج عليه، بشرط ألا يتخطى رقاب الناس، ولا يؤذيهم إذا جاء إلى مكانه، وإن كان الأولى عدم مثل ذلك متى وجد عنه مندوحة (٥).

ومن تقدم إلى المسجد وفي نيته انتظار الصلاة ثم عرض له عارض من وضوء ونحوه فقام لا حرج


(١) النهاية في غريب الحديث (٥/ ٢٠٤).
(٢) كشاف القناع (١/ ٤٩٤).
(٣) شرح فتح القدير (١/ ٤٢٢)، والدين الخالص للسبكي (٣/ ٢٠٣).
(٤) بدائع الفوائد لابن القيم (٣/ ٨٢)، وانظر في هنا الموضوع مجموع الفتاوى (٢/ ١٨٩، ١٩٣، ١٩٥)، والفتاوى السعدية، للشيخ عبد الرحمن السعدي (ص ١٨٢) وما بعدها.
(٥) انظر الفتاوى السعدية (ص ١٨٦).

<<  <   >  >>