للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وانظر كيف جاز الجمع بين الصلاتين للمطر وتقديم الصلاة الثانية عن وقتها لأجل الجماعة، لو كان فعلها في البيت جائزًا لما جاز الجمع لذلك؛ لأن أكثر الناس قادرون على الجماعة في البيوت فإن الإنسان غالبًا لا يخلو أن تكون عنده زوجة أو ولد أو صديق أو نحوهم، فيمكنه أن يصلي كل صلاة في وقتها جماعة، فلما جاز الجمع علم أن المقصود بالجماعة جماعة المسجد، وأن حضور المساجد واجب على الأعيان إلا بعارض يجوز معه ترك الجماعة (١).

وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: ٤٣].

قال ابن الجوزي: أي: صلوا مع المصلين. وقال أبو بكر الكاساني: (أمر الله تعالى بالركوع مع الراكعين، وذلك يكون في حالة المشاركة في الصلاة، فكان أمرًا بإقامة الصلاة بالجماعة، ومطلق الأمر لوجوب العمل) (٢).

وقال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: ٤٢، ٤٣].

قال ابن كثير رحمه الله: (لما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة إذا تجلى الرب -عز وجل- فسجد له المؤمنون لا يستطع أحد من الكافرين ولا المنافقين أن يسجد، بل يعود ظهر أحدهم طبقًا واحدًا، كلما أراد أحدهم أن يسجد خرّ لقفاه، عكس السجود، كما كانوا في الدنيا، بخلاف ما عليه المؤمنون) (٣). وعليه فإجابة الداعي هي إتيان المسجد، كما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للأعمى: (أجب) (٤)، والله أعلم.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" (٥).

ووجه الدلالة: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- همّ بتحريق بيوت المتخلفين عنها عليهم. ولا يهم بهذه العقوبة إلا من أجل ترك واجب، وهو حضور الجماعة. وإلا فالظاهر أنهم يصلون في بيوتهم؛ لقوله: "لا يشهدون الصلاة". وفي رواية: "فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد". أي: بعد أن يسمع النداء إليها أو بعد أن يبلغه التهديد المذكور (٦).

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: (من سرّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهنّ، فإن الله شرع لنبيكم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم،


(١) انظر: كتاب الصلاة ص (١٣٧).
(٢) زاد المسير (١/ ٧٥)، بدائع الصنائع (١/ ١٥٥)، وانظر: كتاب الصلاة لابن القيم ص (١١٣).
(٣) تفسير ابن كثير (٨/ ٢٢٥).
(٤) كتاب الصلاة لابن القيم ص (١١٢).
(٥) أخرجه البخاري (٦٢٦)، ومسلم (٦٥١).
(٦) انظر كتاب الصلاة لابن القيم ص (١١٤)، وانظر فتح الباري (٢/ ١٤١).

<<  <   >  >>