للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فإن كان مرورًا به فإنه يجوز ذلك للجنب والحائض على الراجح من أقوال أهل العلم، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: ٤٣].

والمراد بالصلاة: أماكنها وهي المساجد، والمعنى: لا تقربوا المصلّى للصلاة وأنتم سكارى .. ولا تقربوه جنبًا حتى تغتسلوا {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} أي: مجتازين للخروج منه، وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس بأسانيد فيها مقال، وثبت هذا التفسير عن جماعة من التابعين كسعيد بن المسيب، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي (١). وذهب إلى هذا التفسير الشافعي، كما في كتابه "الأم" ونقله عنه ابن المنذر (٢).

ورجحه ابن جرير وابن كثير وقال: وهو الظاهر من الآية. ومال إليه القرطبي والشوكاني في تفسيرهما (٣)، قالوا: ولا يراد بالآية: الصلاة، وبقوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} المسافر؛ لأن التيمم لا يخص المسافر، ولأنه بين حكم المسافر في آخر الآية {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن النهي في الآية عن قربان الصلاة وعن قربان موضعها (٤).

وأما الحائض فقد ورد عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها: "ناوليني الخُمرة من المسجد"، قالت: إني حائض، قال: "إن حيضتك ليست في يدك" (٥).

فهذا يدل على جواز مرور الحائض في المسجد وأنها ليست نجسة، ولكن النجس منها هو موضع الدم وهو الفرج؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرها أن تأتيه بالخمرة من المسجد. والخُمرة: بضم الخاء: حصير صغير.

وأما لبث الجنب في المسجد فلا يجوز، على الراجح من أقوال أهل العلم، استدلالًا بالآية السابقة، وأخذًا بحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" (٦).

لكن إن توضأ الجنب جاز له اللبث على ما قال الإمام أحمد. واختاره ابن تيمية (٧) لما روى حنبل بن إسحاق عن أبي نعيم، عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتحدثون في المسجد على غير رضوء، وكان الرجل يكون جنبًا فيتوضأ، ثم يدخل المسجد فيتحدث (٨).


(١) تفسير ابن جرير (٨/ ٣٧٩ - ٣٨٤).
(٢) الأم (١/ ٧٠، ٧١)، الأوسط لابن المنذر (٢/ ١٠٨).
(٣) تفسير ابن كثير (٢/ ٢٧٥)، تفسير القرطبي (٥/ ٢٠٧)، فتح القدير (١/ ٤٦٩).
(٤) الفتاوى الكبرى (١/ ١٢٦).
(٥) أخرجه مسلم (٢٩٨)، وأخرجه بلفظ آخر (٢٩٩).
(٦) أخرجه أبو داود (٢٣٢)، وابن خزيمة (١٣٢٧)، وهو حديث مختلف في تصحيحه، فقد صححه ابن خزيمة، وحسنه ابن القطان في "الوهم والغيهام" (٥/ ٣٣٢)، والزيلعي في "نصب الراية" (١/ ١٩٤)، كما صححه الشوكاني في "نيل الأوطار" (١/ ٢٧٠)، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: لا بأس بإسناده.
وضعفه البيهقي في سننه (٢/ ٤٤٣)، وقال عبد الحق: لا يثبت، وبالغ ابن حزم فقال في "المحلى" (٢/ ١٨٦): إنه باطل.
(٧) الفتاوى (٢١/ ٣٤٤، ٣٤٥).
(٨) ذكره ابن كثير في تفسيره (٢/ ٢٧٥)، وذكره المجد في المنتقى (١/ ٣٩٩)، وقال ابن كثير: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم. اهـ. وهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات، سوى هشام بن سعد. فقد قال عنه الحافظ في "التقريب": صدوق له أوهام. اهـ. لكن نقل الحافظ في تهذيبه (١١/ ٣٧)، أن الآجري روى عن أبي داود أنه قال: أثبت الناس في زيد بن أسلم هشام بن سعد. اهـ.

<<  <   >  >>