والرابع: قالوا: الهزيمة، قال تعالى:(فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ). يعني: الهزيمة عنهم، ومصدر هذا التولية، وليس بالتولي، نهى اللَّه تعالى المؤمنين أن يولوا الكفار أدبارهم في القتال إلا أن ينحرف أحدهم من موضع لا يمكنه فيه الضرب والطعن إلى موضع يمكنه فيه ذلك، أو أن يضيق عليه فليلتجئ إلى جماعة من المسلمين، فينضافوا معه على مدافعة العدو، ومن يولي عن العدو على غير هذين الوجهين فقد باء بغضب من اللَّه، أي: استحق الغضب من اللَّه مقابلة بقبيح فعله، وهو من البواء في القتل، وهو أن يقتل بالرجل كفوه.
قال أبو بكر الرازي رحمه الله:" وهذا الحكم عندنا ثابت ما لم يبلغ عدد جيش المسلمبن اثني عشر ألفا، فإذا بلغ ذلك فليس لهم أن ينهزموا عن مثلهم إلا متحرفين لقتال "، والحجة حديث ابن عباس عنه - عليه السلام - " خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعة مائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة "؛ وسأل رجل مالكا، فقال: أيسعنا قتال من خرج من أحكام الله وحكم بغيرها، فقال مالك: إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف، وإلا فأنت في سعة من ذلك.
وقال بعضهم: هذه الآية في أهل بدر؛ وليس الفرار من الزحف كبيرة، وهذا غلط، لأن النفي عام، وليس لأحد تخصيصه، ولا يكون المجمل إلا على العموم، وقيل: هذا الوعيد لازم لمن فرَّ عن الزحف حبا للحياة، فأما من لم يجد بُدًّا من الفرار فهو في سعة.
والزحف: السير هي الثقيل، وبه يوصف العساكر، لأنَّهَا إذا دنت من العدو؛ سارت على تعبئة، وسير الجماعة المعبأة رويدا.
الخامس: بمعنى ولاية الأمر، قال:(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) بالكسر، أي: تولى الإثم فيه، كأنَّه صار صاحب الإثم فيه، وقرئ (كبره)، أي: معظمه، وكبر الشيء: معظمه، وكذلك كبره: لغتان، وقيل كبر: مصدر الكبير من الأمور، وكبر: مصدر الكبير السن، مثل: الكبر والكبر: الكبير أيضا.