رُوحَانِيَّةٌ. قَالَ الْحَافِظُ: وَالْحَقُّ أَنَّ تَمَثُّلَ الْمَلَكِ رَجُلًا لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَاتَهُ انْقَلَبَتْ رَجُلًا، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ ظَهَرَ بِتِلْكَ الصُّورَةِ تَأْنِيسًا لِمَنْ يُخَاطِبُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَدْرَ الزَّائِدَ لَا يَزُولُ وَلَا يَفْنَى بَلْ يَخْفَى عَلَى الرَّائِي فَقَطْ، وَتَقَدَّمَ مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي أَوَّلِ حَدِيثٍ (فَيُكَلِّمُنِي) بِالْكَافِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ: " فَيُعَلِّمُنِي " بِالْعَيْنِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ فَإِنَّهُ فِي الْمُوَطَّأِ رِوَايَةُ الْقَعْنَبِيِّ بِالْكَافِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ وَغَيْرِهِ.
(فَأَعِي مَا يَقُولُ) زَادَ أَبُو عَوَانَةَ: " «وَهُوَ أَهْوَنُهُ عَلَيَّ» "، وَعَبَّرَ هُنَا بِالِاسْتِقْبَالِ وَفِيمَا قَبْلَهُ بِالْمَاضِي ; لِأَنَّ الْوَحْيَ حَصَلَ فِي الْأَوَّلِ قَبْلَ الْفَصْمِ وَفِي الثَّانِي حَالَ الْمُكَالَمَةِ، أَوْ أَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ تَلَبَّسَ بِصِفَاتِ الْمَلَكِيَّةِ، فَإِذَا عَادَ إِلَى جِبِلَّتِهِ كَانَ حَافِظًا لِمَا قِيلَ لَهُ فَعَبَّرَ بِالْمَاضِي، بِخِلَافِ الثَّانِي فَإِنَّهُ عَلَى حَالَتِهِ الْمَعْهُودَةِ.
وَأَوْرَدَ عَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ حَصْرِ الْوَحْيِ فِي الْحَالَتَيْنِ حَالَاتٍ أُخْرَى، أَمَّا مِنْ صِفَةِ الْوَحْيِ بِمَجِيئِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ وَالنَّفْثِ فِي الرَّوْعِ وَالْإِلْهَامِ وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ وَالتَّكْلِيمِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَأَمَّا فِي صِفَةِ حَامِلِ الْوَحْيِ كَمَجِيئِهِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَرُؤْيَتِهِ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، وَالْجَوَابُ مَنْعُ الْحَصْرِ فِي الْحَالَيْنِ، وَحَمْلُهُمَا عَلَى الْغَالِبِ أَوْ حَمْلُ مَا يُغَايِرُهُمَا عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ السُّؤَالِ، أَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِصِفَتَيْ الْمَلَكِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لِنُدُورِهِمَا، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ كَذَلِكَ إِلَّا مَرَّتَيْنِ، أَوْ لَمْ يَأْتِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِوَحْيٍ، أَوْ أَتَاهُ بِهِ وَكَانَ عَلَى مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ بِهَا صِفَةَ الْوَحْيِ لَا صِفَةَ حَامِلِهِ
وَأَمَّا فُنُونُ الْوَحْيِ فَدَوِيُّ النَّحْلِ لَا يُعَارِضُ صَلْصَلَةَ الْجَرَسِ ; لِأَنَّ سَمَاعَ الدَّوِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَاضِرِينَ كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ يُسْمَعُ عِنْدَهُ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، وَالصَّلْصَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَبَّهَهُ عُمَرُ بَدَوِيِّ النَّحْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّامِعِينَ، وَشَبَّهَهُ هُوَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِصَلْصَلَةِ الْجَرَسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِهِ.
وَأَمَّا النَّفْثُ فِي الرَّوْعِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ، فَإِذَا أَتَاهُ فِي مِثْلِ الصَّلْصَلَةِ نَفَثَ حِينَئِذٍ فِي رَوْعِهِ، وَأَمَّا الْإِلْهَامُ فَلَمْ يَقَعِ السُّؤَالُ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ عَنْ صِفَةِ الْوَحْيِ الَّذِي يَأْتِي بِحَامِلٍ، وَكَذَا التَّكْلِيمُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.
وَأَمَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا تَرِدُ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَمَّا يَنْفَرِدُ بِهِ عَنِ النَّاسِ وَالرُّؤْيَا قَدْ يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، انْتَهَى.
وَالرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ وَإِنْ كَانَتْ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ فَهِيَ بِاعْتِبَارِ صِدْقِهَا، وَإِلَّا لَسَاغَ أَنْ يُسَمَّى صَاحِبُهَا نَبِيًّا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلَ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَمَّا فِي الْيَقَظَةِ، وَلِكَوْنِ حَالِ الْمَنَامِ لَا يَخْفَى عَلَى السَّائِلِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَخْفَى عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ ظُهُورُ ذَلِكَ لَهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْمَنَامِ أَيْضًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا غَيْرَ، قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَلِيمِيُّ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَأْتِيهِ عَلَى سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ نَوْعًا فَذَكَرَهَا، وَغَالِبُهَا مِنْ صِفَاتِ الْوَحْيِ، وَمَجْمُوعُهَا يَدْخُلُ فِيمَا ذُكِرَ، انْتَهَى.
(قَالَتْ عَائِشَةُ) بِالْإِسْنَادِ السَّابِقِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حَرْفِ عَطْفٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَتِيقِ بْنِ